https://img.arabi21.com/Content/Upload/large/520202953613144.jpg

خمس سنوات على رحيل ناصر الدّين الأسد

by

بادئ ذي بدء، أودّ التّأكيد أنّ الّذي دفعني إلى الكتابة عن هذه الشّخصيّة في هذا المقال، ما لمستهُ من جهل طلاب المرحلة الجامعيّة الأولى، بل وبعض حاملي الشّهادات العليا بها، بالرّغم من أنّ ناصر الدّين الأسد لم يمضِ على وفاته خمس سنوات. كما رأيتُ من جانب آخر أنّ الواجب يحتّم عليّ وعلى جميع الباحثين والمهتمين الاعتراف لأهل العلم بفضلهم.

 

ولا شكّ أنّ جهل الدارسين بهذه الشّخصية، حتى بوجوده، مثال على جهل الدارسين قي الوطن العربي كافة، وعدم معرفتهم به. وليس معنى ذلك أنني أدّعي لنفسي السّبق في التّعرض لهذه الشّخصية، فقد تعرّض له الكثير من الدّارسين والباحثين.

ولعلّه من المفيد هنا، أن نذكر جهود ناصر الدّين الأسد في مجال الأدب والنّقد واللغة، وحري بنا أن نشير إلى أنّ الدّكتور إبراهيم خليل، خصص كتيّبًا صغيرًا موسومًا بـ "ناصر الدّين الأسد"، تعرّض لجهوده وآرائه، فكان له فضل في إظهار شخصيته، والدّعوة إلى دراستها(1).

ولد ناصر الدّين الأسد في مدينة العقبة الأردنيّة، سنة 1922، لأب أردنيّ وأم لبنانيّة، ويعدّ من المؤسسين للجامعة الأردنيّة التي عمل مدرسًا للغة العربيّة وآدابها فيها(2)، تقلّد خلال مسيرته مناصب إداريّة رفيعة، سفيرًا، ووزيرًا، وعضوًا في مجلس الأعيان، ورئيس جامعة، الأمر الذي جعله يحقق شهرة واسعة على امتداد الوطن العربي، توفي في الواحد والعشرين من أيار 2015، هذا وقد شيع جثمانه من مسجد الجامعة الأردنيّة في عمّان.

يعدّ ناصر الدّين الأسد واحدًا من أعلام الفكر والثقافة العربيّة، نذر حياته للعلم، وقد ترك أعمالًا علميّة قيّمة، يعدّها أهل الاختصاص في الأدب والنّقد واللغة من أبرز المصادر العلميّة الموثوقة، وما يجدر الإشارة إليه في هذا الصّدد، أنّ ناصر الدّين الأسد كثيرًا ما ارتبط اسمه بكتابه "مصادر الشّعر الجاهلي(3)، فقد اجتذب هذا الكتاب الكثير من الباحثين، وأمسى مرجعًا مهمًّا، فلا يكاد يذكره الدّارسون إلّا ويذكرون معه هذا الكتاب، الذي هو في الأصل أطروحة، تقدّم بها الأسد لجامعة القاهرة؛ من أجل نيل درجة الدّكتوراه، سنة 1955م.

ومن المثير للاهتمام، أنّ ناصر الدين الأسد كان تلميذ طه حسين، ومتأثرًا بمنهجه، إلّا أنّه كان ذا آراء مختلفة، وكانت أفكاره أكثر دقة وموضوعيّة، وليست ذاتيّة، وقد جاءت أطروحته تلك بمنزلة توضيحات ووجهات نظر متباينة لبعض آراء أستاذه طه حسين في كتابه "في الأدب الجاهلي"(4)، الذي اتّخذ موقفًا مشككًا في نسب الشّعر الجاهلي للعرب الجاهليين، لهذا نفى أن تكون أطروحته تلك ردًّا على كتاب طه حسين، وهذا تمامًا ما سمعه تلميذه إبراهيم خليل بنفسه في مقابلة متلفزة مع ناصر الدّين الأسد.

وعمومًا، فقد أثبت ناصر الدين من خلال أطروحته مصادر الشّعر الجاهلي وأقدميتها، هذا فضلًا عن أنّه أنصف رواة الشّعر، وما لحق بهم من اتّهام إلى حدّ التّجريح. وبمناسبة الكلام عن الكتابين، يجدر بنا أن نشير إلى أنّ الكتابين أثارا حركة نقديّة في مجاله بين صفوف الباحثين والدّارسين، تلك الحركة في أبحاث ودراسات بين مؤيد ومعارض، ولا زال صداها حتّى اليوم ماثلا ومستمرا. 

لا يتسع مجالنا الآن بطبيعة الحال للإفاضة في جهود ناصر الدين الأسد النّقديّة واللغويّة، وحسبنا في هذا المقام أن نشير إلى أنّه صنّف إلى جانب كتابه "مصادر الشّعر الجاهلي"، العديد من المصنّفات العلميّة في مجالات الأدب والنّقد واللغة، ويمكن القول بأنّها مصنّفات اتّسمت بالعلميّة والرّصانة والاستقصاء، الأمر الذي جعله يولي عناية بالغة بالمخطوطات، ومن مصنّفاته هذه، نذكر على سبيل المثال لا الحصر: القِيَان والغناء في العصر الجاهليّ (1960)، والشعر الحديث في فلسطين والأردن (1961)، ونشأة الشعر الجاهلي وتطوره (1999)، وتحقيقات لغوية (2003).

بالإضافةِ إلى ذلك كلّه، كتب ناصر الدّين الأسد شعرًا في بواكير حياته، وقد جمعه في ديوان تحت عنوان "همس وبوح"(5)، وهذا العنوان بدوره يعطي القارئ توجّه الأسد الشّعري، إذ يحمل هذا العنوان وعيًا ونزوعًا رومانسيًا، وعلى سبيل التوضيح نكتفي بإيراد شاهد شعري توضيحي، إذ يقول في إحدى قصائده:

فــــأنتِ وليــــــدةُ هـذا الخيالِ*** وبنتُ صـــــبابتيَ الدائمــــــــــةْ
نَسجْتُ عليكِ فُتــــونَ الجمالِ*** وَصُغتُكِ من بُرْدِهِ النّاعِمــــــــــةْ
أُغذِّيكِ من موحيــاتِ الشّعور*** حتّى استقمتِ مُنىً باسمـــــــــةْ


الواضح من الأبيات السّابقة، أنّها تندرج ضمن الاتجاه الرّومانسي، ذلك من خلال ذكر الشّاعر للأنثى والهيام بها كغيره من الشّعراء الرومانسيين، الذين جعلوا مفرداتها مادة للتّعبير، كما أنّ الأبيات كفيلة بأن تشير إلى امتلاك صاحبها لأدوات الشّعر؛ لغةً وإيقاعًا وتصويرًا. وبكلمة أكثر تحديدًا، نقول؛ إنّ اللغة التي يستخدمها ناصر في شعره لغة عذبة ورقيقة، مشحونة بالعاطفة، والإحساس المرهف، ذلك من خلال امتزاج التجربة الشّعرية بالشّعورية. وفي ضوء ما تقدّم، فإنّ ناصر الدّين الأسد، وهو قامة أردنيّة أكاديميّة مرموقة، يستحق منا الكثير، وجدير بمثل هذا العَلَمِ التّذكير به.

ولعلّ من المآخذ على منهج الأسد في تعامله مع النّصوص الأدبيّة ونقدها، أنه كثيرًا ما كان يربطها بسياقاتها التّاريخيّة (الخارجية)، خاصّة عندما يتطرق إلى قائل النّص، لتزخر دراساته بكثير من الإحالات المطرّدة إلى سيرة الكاتب، وهو ما يجعل دراساته تقع أحيانًا في الجمود الممل، ولعلّه محق في ذلك بأنّ السّبب يرجع في اعتقاده إلى أنّ فهم القارئ لا يستقيم ما لم يكن لديه حظ من الإلمام بسيرة الشّاعر وأخباره(6).

وختامًا، ما ذكرته بمناسبة وفاة ناصر الدّين الأسد في هذا المقال هو قليل من كثير، رحمه الله وسلام عليه مع الخالدين. 

 

المصادر والمراجع:
(1) انظر، ناصر الدين الأسد وآثاره في اللغة والأدب: إبراهيم خليل، عمّان، 2017م.

(2) انظر، معجم الأدباء الأردنيين في العصر الحديث، منشورات وزارة الثقافة، 2014، ص 301.
(3) انظر، مصادر الشعر الجاهلي وقيمتها التاريخية: ناصر الدين الأسد، دار المعارف، القاهرة، 1956م.
(4) انظر، في الأدب الجاهلي: طه حسين، ط2 ـ 1927، دار المعارف، القاهرة.
(5) همس وبوح: ناصر الدين الأسد، ط1 ـ 2007م، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت.