https://i.alarab.co.uk/styles/article_image_800x450_scale/s3/2020-05/egg1_0.jpg?kAfw4hbkrtVhMGf0PozCkeCM2y3_LQv6&itok=7zq-EnrE
النت وسيلة للاستقطاب ونشر الفكر المتطرف

المساجد الإلكترونية في مصر منابر لأئمة مجددين ومتطرفين

حسابات الأوقاف على منصات التواصل تتحول إلى ساحة للاستقطاب الديني.

by

رقابة وزارة الأوقاف المصرية على أئمة المساجد وخطبائها تطرح أكثر من إشكالية وتنفتح على أكثر من قضية. فهي من ناحية رقابة مطلوبة للحدّ من منسوب التطرف الديني الذي ما زال كامنا في الخطاب المسجدي، وهي من ناحية ثانية رقابة تحول دون فتح كوّة الاجتهاد أمام الأئمة المتنورين والمجددين، ولذلك فإن تعقب الأوقاف للحسابات الإلكترونية للأئمة هي قضية تحيل إلى المشكلة المزمنة المتصلة بالخطاب الديني المنشود.


قرار وزارة الأوقاف المصرية بتعقب حسابات أئمة وخطباء المساجد على مواقع التواصل الاجتماعي لكشف أفكارهم وسلوكياتهم، عَكَس تصاعد وتيرة الخوف من إمكانية خروج الخطاب الديني عن السيطرة، واتساع دائرة التمرّد بين الأئمة على توجهات المؤسسة المعنية برقابة وإدارة المساجد.

برر رئيس القطاع الديني بوزارة الأوقاف جابر طايع، قبل أيام، قرار تتبع ما يكتبه الأئمة والخطباء على منصبات التواصل، بأنها “تريد التأكد من ممارستهم لخطاب ديني معتدل، وعدم إقدامهم على سلوكيات تمثل خطورة على المجتمع واستبعاد المخالفين وتحويلهم إلى التحقيق”.

استثمر بعض الأئمة والخطباء قرار غلق دور العبادة كإجراء احترازي لمنع انتشار وباء كورونا، وقاموا بإنشاء صفحات على منصات التواصل بأسماء المساجد المسؤولين عنها، وضم الناس إليها في مجموعات يمكن وصفها بالمساجد الإلكترونية، وكتابة منشورات.

استشعرت وزارة الأوقاف خطورة الموقف، لأنها لا تريد أن تتحوّل المساجد الافتراضية إلى منابر دينية بديلة عن المساجد العادية، يتم خلالها الترويج لخطب وفتاوى مغايرة لسياسة الحكومة المرتبطة بالمجال الدعوي، وتستثمرها بعض التيارات المناوئة لخدمة أهدافها وتوجهاتها.

ما ضاعف قلق المؤسسة الدينية المعنية بإدارة دور العبادة أن شخصيات تابعة لجماعة الإخوان، وظفت فوضى الخطابة على الشبكات الاجتماعية للدخول في سجال مع أئمة تابعين للأوقاف، حول قضايا دينية شائكة وأخرى سياسية مثيرة، واستثمرت فرصة أن المتحدث يحمل صفة رسمية في مسجد تابع للحكومة.


شخصيات تابعة للإخوان، وظفت فوضى الخطابة على الشبكات الاجتماعية للدخول في سجال مع أئمة تابعين للأوقاف


رأى الباحث والمتخصص في شؤون الجماعات المتطرفة منير أديب، أن “ما يثير القلق من غياب السيطرة على أئمة الأوقاف توظيفهم الدين في خدمة أغراض مشبوهة، وهو ما تبحث عنه تيارات الإسلام السياسي للبقاء في المشهد، ولو من خلال منصات افتراضية يتم تحويلها إلى مساجد إلكترونية بديلة عن الموجودة في الواقع”.

وأوضح في تصريحات لـ“العرب”، أن الرقابة على المحتوى الرقمي الذي يبثه أئمة الأوقاف نجم من حالة الخوف وعدم الطمأنينة لما يمكن تسريبه، لكنه في النهاية أمر مطلوب وحتمي لمنع تديين السياسة، خاصة إذا جاءت من أشخاص معروفين بانتمائهم إلى مؤسسة دينية، حيث يتم جرهم إلى قضايا وإشكاليات قد يتم توظيفها لأهداف خبيثة.

معضلة وزارة الأوقاف أنها ترفض خوض أئمتها في المجال السياسي عبر المساجد الإلكترونية، في حين أنها تفرض عليهم أحيانا التطرق إلى قضايا تروّج للخطاب الحكومي، من خلال نصوص مكتوبة، مثل المشروعات القومية وجهود الحرب على الإرهاب، بشكل يتنافى مع مبدأ فصل الدين عن السياسة.

تكمن أزمة تمرد بعض الأئمة على قرار حظر إنشاء صفحات بأسماء المساجد على منصات التواصل، في أن هذه المجموعات الدينية تحمل صبغة رسمية وأصبحت مرجعية لدى الكثير من مواطني المنطقة السكنية التي يقع فيها المسجد، ويتحدث فيها الخطيب أو الإمام بأريحية دون رقابة على الفتوى أو المحتوى.

تعتقد وزارة الأوقاف أن شخصية الإمام والخطيب ورؤيتها الفكرية والدينية لا يجب أن يكون لها وجهان، الأول في المسجد والآخر على منصات التواصل، لأن هذا عمل الجماعات التي تراوغ المجتمع، وهو ما لا يليق بشخصية الإمام باعتبار أن ذلك يرقى لصفة الفصام.

وأكد أحد كبار أئمة الأوقاف لـ“العرب”، وطلب عدم نشر اسمه، أن الخطاب الديني الذي يروّج له خطباء المساجد الإلكترونية يختلف جذريا عن الخطبة الموحدة التي تريد وزارة الأوقاف ترسيخها في المساجد العادية، فضلا عن نشر فتاوى تلامس حياة الناس، والأخطر من ذلك أن بينهم من يكتب ضد سياسة الوزارة.

وأشار إلى أن الكثير من شيوخ السلفية المستبعدين من الإمامة والخطابة، نسبوا أنفسهم إلى وزارة الأوقاف بإنشاء حسابات بأسماء مساجد، لاستثمارها في الترويج لخطابهم الديني المتشدد ومناقشة قضايا سياسية تتناغم من جماعات مناهضة للحكومة، حتى بدت الوزارة وكأنها فقدت السيطرة على المشهد الديني.

وأضاف أن مشكلة غالبية أئمة الأوقاف تكمنُ في الخطاب الديني المفروض عليهم لتوصيله إلى الناس، وما يحمله من تناقض مع احتياجات الشارع، لأنهم مضطرون للالتزام الحرفي بما يُملى عليهم من خُطب يمنعُ فيها التجديد والاجتهاد، ما دفع بعض هؤلاء إلى البحث عن منابر متحررة، مثل منصات التواصل، لتوصيل فكرهم بأسلوبهم.

https://i.alarab.co.uk/s3fs-public/inline-images/egg3_0.jpg?BNTcPbdgEl6O3U38rmuUVp4Vyp.mZK0v
مكان للعبادة وليس للخطابات السياسية

ما يلفت الانتباه، أن قرار تعقب حسابات الأئمة والخطباء، جاء بعد أيام قليلة من إعلان وزارة الأوقاف إنشاء إدارة للدعوة الإلكترونية مختصة بالوعظ الرقمي، في محاولة لقطع الطريق على التيارات الدينية المتشددة للسيطرة على المشهد الديني من خلال منصات التواصل.

ويرى متابعون أن الحكومة ترغب في تعويض خسارة معركتها مع التيار السلفي، في ما يخص السيطرة على المساجد، بالإصرار على إقامة الصلوات فيها رغم غلقها لظروف جائحة كورونا، بمطاردة من يسيرون على نهجهم أو يخدمون أهدافهم إلكترونيا، بغض النظر عن طبيعة المحتوى المقدم للجمهور.

ويخشى هؤلاء أن يكون الهدف من وراء تتبع حسابات الأئمة في الواقع الافتراضي، مجرد البحث عن حفظ ماء الوجه بعدما بدت غير قادرة على إحكام القبضة على رجالها في المساجد، وانتقاء عناصر وسطية من أصحاب الفكر التنويري، وإلا لما اضطرت إلى رقابة ما يكتبوه أو يفتون به.

وأحدثت فتاوى دينية متشددة لعلماء تابعين لمؤسستي الأزهر ودار الإفتاء جدلا واسعا مؤخرا، وفي كل مرة يتم اتهام الجهة التي يعمل فيها صاحب الفتوى بأنها تحتضن متطرفين، ولا تريد وزارة الأوقاف إلصاق هذه التهمة كي لا تخسر نفوذها السياسي والديني.

ولأن الأوقاف تبحث عن الصفة الملائكية أمام صانع القرار السياسي، فقد اعتادت أن يكون المجال الدعوي في المساجد مركزيا، فلا مجال للتفوه بكلمة أو إلقاء خُطبة أو مناقشة قضية إلا إذا كانت صادرة عن الوزارة، بمعنى أن حرية الرأي والتعبير والاجتهاد ومناقشة موضوعات عامة أمر محظور على الأئمة والخطباء، لذلك وجد أغلبهم في منصات التواصل بديلا أكثر انفتاحا وتقبلا لآرائهم، وتخفّى بينهم الكثير من المتشددين.

أقرب مثال على ذلك، أن أحد الأئمة تبنى حملة لانتقاد الفتوحات الإسلامية ووصفها بأنها إحدى مرجعيات الإرهابيين لنشر عقيدتهم بسفك الدماء، فتم وقفه عن العمل ومنعه من العمل في المساجد، ما يعني أن هروب الإمام أو الخطيب إلى منصات التواصل يمكن تبريره أحيانا بالتضييق المفروض عليه في مسألة الاجتهاد على المنبر.

وبغض النظر عن مبررات الرقابة على الأئمة على منصات التواصل للسيطرة على المساجد الرقمية، فإن البحث عن الاستقلالية المفقودة يظل حجة أغلب رجال الدين المتمردين على قيود الاجتهاد فوق المنبر، ما يفرض على وزارة الأوقاف دراسة الحالة وأسبابها وعلاجها بأسلوب علمي، وعدم الاكتفاء بإقصاء المخالفين من المشهد، لأن النهج العقابي وحده لن يوقف المتمردين ولا المجددين ولا المتطرفين، ولن يمنع رواد المساجد من الحصول على المعلومات الدينية عبر المنابر الافتراضية.