https://i.alarab.co.uk/styles/article_image_800x450_scale/s3/2020-05/nnnnnnnnnnnnnnn.jpg?fuGqWLgrAjIWyrhdfZ9Fa8ZVRDDPNfMf&itok=mXs4aY9A
توزيع بصري جديد للقصائد (لوحة للفنان ساسان نصرانية)

القصيدة العمودية تتخلى عن بيتها لمغازلة القراء

شعراء العمودي يكتبون قصائدهم العمودية في شكل أشبه بالشكل التفعيلي، وينثرون كلماتهم وتفعيلاتهم على سطور مثلما يفعل شعراء التفعيلة الجدد.

by

يلعب الشكل دورا هاما في فعل القراءة والتلقي، ومع تحول الشعر العربي من مسموع إلى مقروء تغيرت الأشكال الشعرية في تشكلها البصري، فحتى القصيدة العمودية، وبيتها ذو الشطرين، تغيرت بدورها في توزيع جديد، تتماهى فيه مع قصيدة التفعيلة، متجهة إلى السطر الشعري بديلا عن البيت.


مع انتشار الشعر التفعيلي بدءا من خمسينات القرن الماضي، واكتسابه أرضية جديدة ومتذوقين جددا، بدأ بعض شعراء العمودي (الشكل ذي الشطرين) يفكرون في طريقة مجدية لجذب هؤلاء المتذوقين إلى صفوفهم، فبدأوا يكتبون قصائدهم العمودية في شكل أشبه بالشكل التفعيلي، وينثرون كلماتهم وتفعيلاتهم على سطور مثلما يفعل شعراء التفعيلة الجدد.

ولكن القارئ الحصيف الذي يدرك الفرق بين الشكلين، لا تنطلي عليه الخدعة، وسرعان ما يكتشف أن هذا شعر عمودي (ذو شطرين) نثره صاحبه على سطور مثلما يفعل شعراء التفعيلة، هكذا فعل نزار قباني وغيره بقصائده العمودية، مع أن شاعرا مثل نزار لم يكن في حاجة إلى هذا الأمر، لأنه كان قد حقق انتشارا واسعا منذ ديوانه الأول “قالت لي السمراء” الذي صدر عام 1944 وتلاه ديوان “طفولة نهد” (1948).

ودائما ما كنت أتساءل: لماذا الشعراء الذين يجيدون كتابة الشعر العمودي (ذي الشطرين) يوزعونه على سطور على طريقة شعر التفعيلة؟

طرحت هذا السؤال على صفحتي بفيسبوك، وأجابني عدد كبير من النقاد والشعراء، وطرح كل منهم رؤاه والأسباب التي تدفع بعض شعراء العمودي إلى كتابة قصائدهم على الشكل التفعيلي.

وعلّق الناقد أحمد إسماعيل قائلا “لعله توزيع حسب كثافة المعنى ودلالة الصورة. بدأه لويس عوض في مجلة الشعر في ستينات وسبعينات القرن الماضي”. بينما أجاب الكاتب والناقد السعودي خالد يوسف باقتضاب قائلا “موضة!” ورأى الكاتب إبراهيم السيد أنها “قناعات حداثية مكبوتة”.

بينما قال الناقد الأردني عماد ضمّور “قد يكون التشكيل البصري لدى المتلقي لم يعد يستوعب الشكل التقليدي للقصيدة العربية، فمالوا إلى هذا التغيير”. وأضاف قائلا “لعلّ الحديث عن هذا الموضوع مرتبط بما شهده إبداع النص الشعري من صراع عميق يعكس وعيا جماليّا واضحا، فالشكل التقليدي المألوف القائم على الصدر والعجز أصبح رتيبا في عصر يميل إلى التصعيد الدرامي والاختزال الدلالي بعيدا عمّا يقتضيه الشكل التقليدي من تقليد فني قد لا يبدو مقبولا في عصر يشهد نزوعا نحو التصعيد الدرامي والتجويد الفني”.

توزيع البيت التقليدي، في القصيدة العمودية، على أكثر من شطر يعبر عن تصور جمالي، وليس مجرد شكلانية

وقال الشاعر والمترجم شرقاوي حافظ “دعني أقول وجهة نظري لأنني أفعل ذلك أحيانا. أولا إذا كانت القصيدة يكتمل معنى جملها بقدر الشطر كتبتها شطرية إذا جاز المصطلح. أما إذا كان معنى جملة أكثر أو أقل من شطر كتبتها على السطر مستقلة. وربما جاء هذا من كتابتي لأنواع الشعر المختلفة. وتجدني في تجاربي اعتمدت موسيقى السطر وليس الشطر. ولي تجارب في تكرار أشطر البحور المركبة”.

الشاعر والناقد عبدالله السمطي اطلع على الآراء الفيسبوكية السابقة وعلّق قائلا “كل ما قيل من الأصدقاء هو مجرد احتمالات مع تقديري لما قيل، لكن كتابة القصيدة العمودية على شكل أسطر شعرية مع الحفاظ على الوزن والقافية تتجلى في عدة أمور، الأمر الأول، وهو أهمها، تحريك آلية القراءة والتلقي بالتركيز على جمل شعرية وكلمات معينة داخل القصيدة، بمعنى أن الشاعر يوجه القارئ ليركز على صورة أو كلمة أو جملة شعرية بحيث يكون لها قدر من الاهتمام من قبله بدلا من أن تضيع في حشو البيت أو صدره أو عجزه”.

وأضاف “الثاني كسر سيمترية البيت الشعري (التناظر) المعهودة في صدر وعجز وعروض وضرب، باعتبارها طريقة تبعث على الضجر والرتابة والغنائية التي ربما لم تعد تلائم العصر. والثالث تغير في نمط الأداء الأسلوبي بالقصيدة العمودية بحيث أصبحت الجمل الشعرية داخل البيت أكثر تركيزا وكثافة، والتخلص من الكلمات المعطوفة ووضع نقط وعلامات ترقيم وفواصل ليحتضن البيت أكثر من جملة. والرابع إضفاء نوع من البعد الطباعي البصري تأثرا بقصيدة التفعيلة وقصيدة النثر”.

بينما رأى الناقد محمود عسران أن ذلك “إظهار للسكتات الدلالية والوقفات المعنوية، ومنهم بارعون جدا في هذه الطريقة من الصياغة”. واتفق الشاعر الأردني إياد شماسنة مع عسران وقال “أتفق معك، إضافة إلى الهندسة البصرية للنص وإراحة عين القارئ”، فرد عسران “على فكرة، من يجيدون هذه الآلية من الكتابة تفوقوا على فصيلي العمودية القديم والتفعيلة الحديث وعندي ما يقارب مئتي قصيدة تعضد ما ذهبت إليه”.

وقالت الناقدة السورية عبير خالد يحيى “يغيّرون في الشكل البصري للقصيدة العمودية، وهذا لا يجوز على المستوى البصري المتعارف عليه؛ صدر وعجز على نفس السطر بينهما فراغ”. وتقترح شكل الكتابة على فيسبوك قائلة “أما بالنسبة إلى الكتابة على فيسبوك فيمكن أن يكون العجز على سطر منخفض وبعيد وأقرب إلى الجهة اليسرى”.

بينما علق الشاعر التونسي مكي الهمامي قائلا “إننا إزاء تعامل ذكيّ مع بنية البيت الشعري، يجمع في الآن نفسه بين المرونة والانضباط. وهذا أمر جلل في تصوري الشخصي، ولاسيما عندما أستحضر موقف أدونيس من الحداثة في الشعر، عندما نادى بتفجير القصيدة العمودية من الداخل. أليس هذا هو ذاك. وإذا كان ذلك كذلك، فالجماعة على الطريق الصحيح. يرومون تطوير القصيدة العمودية من داخلها، بدل الارتماء في أحضان النثر. خلافا لأدونيس الذي تنكر لتصوراته فقفز إلى شعر التفعيلة ومنه إلى قصيدة النثر، وكان ما كان من فوضى. وأنت تعلم أستاذنا العزيز، واقع المشهد الشعري الآن، من اختلاط الحابل بالنابل”.