https://www.lstatic.org//UserFiles/images/2017/lebanon/lebanon(4).jpg

لبنان تحت وطأة الفقر الدائم

by

كان لبنان تاريخياً أرضاً للبحّارة والتجار في منطقة البحر الأبيض المتوسط، وقد حافظ على مكانته كبلد ذي دخل متوسط في العصور الحديثة، لـكنّ البلد الذي يطلب مساعدات دولية لحوالي مليونَي لاجئ سوري وفلسطيني اكتشف الآن أن شعبه الخاص يحتاج إلى المساعدة.

في ثاني أكبر مدينة من لبنان، انطلق الناشطون في مهمة خاصة، هم يستكشفون أحياء الطبقة الوسطى في طرابلس، حيث تصطف المباني السكنية ومتاجر المصممين المحفوظة بعناية، بحثاً عن عائلات بأمسّ الحاجة إلى المساعدة، لكنّ شعورها بالإحراج يمنعها من طلب العون، كانت جهود الناشطين تنحصر في الأساس باللاجئين السوريين.

لكن في الأشهر القليلة الماضية، وفي ظل انهيار قيمة الليرة اللبنانية بنسبة 60%، تزامناً مع إغلاق الشركات وتسريح أعداد هائلة من العمال بسبب انتشار فيروس كورونا، أدرك العاملون في الجمعيات الخيرية أن الفقر أصبح تجربة واسعة النطاق، فباتت الواجهات الجميلة لمباني طرابلس مجرّد غطاء خارجي لإخفاء اليأس، إنها تجربة جديدة لسكان المدينة والبلد عموماً.

يتعامل أصحاب متاجر البقالة والصيدليات في معظم أنحاء المدينة مع عشرات أو مئات الحسابات العالقة لأن الأُسَر تعجز عن دفع فواتيرها، كلّف الناشطون مقدّمي تلك الخدمات الأساسية بتوفير معلومات استخبارية محلية، هم يكشفون معلومات حساسة للناشطين، منها أسماء وعناوين العائلات المدينة، شرط أن تبقى هويات المقترضين خفيّة، حيث يُعتبر تراكم الديون وصمة عار بنظر الطبقات الوسطى العربية، وقد يؤدي الكشف عن تراجع الثروات الشخصية علناً إلى انهيار كارثي في المكانة الاجتماعية.

يفهم فاعلو الخير طبيعة المحنة القائمة كونهم من سكان المنطقة أيضاً، فهم يوزعون سراً مغلفات بيضاء صغيرة فيها مبالغ نقدية تتراوح بين 350 و550 دولاراً ويتبرع بها أبناء طرابلس المغتربون لعدد من المحتاجين، وتكون هذه العملية سريعة وتحصل بين ناشطة وربة المنزل، على اعتبار أن رجل العائلة يجب ألا يكتشف ما يحصل.

هلا كبارة هي ناشطة في منظمة «سانوبيل» للإغاثة في طرابلس، وقد تكررت هذه الحالات أمامها: «لم تكن الطبقة الوسطى في لبنان غنية، لكنها كانت تستطيع دفع إيجار المنزل وإرسال أولادها إلى مدارس لائقة، لكنّ الوضع بات أصعب بكثير اليوم، لقد وزعنا الأموال على مئة امرأة من هذا النوع تقريباً، لكنهنّ شعرن بالإحراج، راحت واحدة منهنّ تبكي وشكرتنا».

وتقول فداء جندي حجة، زميلة كبارة ومديرة منظمة غير حكومية، إن الأزمة الاقتصادية في لبنان بدأت تسحق أكثر الناس فقراً، لكنها تنهش الطبقة الوسطى أيضاً، لا يمكن رؤية تداعيات هذا الوضع مباشرةً، لكن يسهل سماعها في صيحات المحتجين المنتشرين في ساحات المدينة رغم تدابير الإقفال التام بسبب أزمة كورونا، وتقول حجة: «لا وجود لأي طبقة وسطى اليوم، بل ثمة جماعات اجتماعية واقتصادية ذات دخل منخفض وهي تجد صعوبة في إعالة نفسها، نشاهد رجالاً عاطلين عن العمل وهم يتسكعون في كل مكان نقصده».

كان لبنان تاريخياً أرضاً للبحّارة والتجار في منطقة البحر الأبيض المتوسط، وقد حافظ على مكانته كبلد ذي دخل متوسط في العصور الحديثة، لـكنّ البلد الذي يطلب مساعدات دولية لحوالي مليونَي لاجئ سوري وفلسطيني اكتشف الآن أن شعبه الخاص يحتاج إلى المساعدة، علماً أن العدد الأكبر من السكان كان ينتمي سابقاً إلى الطبقة الوسطى، هم يملكون ما يكفي من المال لشراء الخبز، على عكس أصحاب الدخل المتدني، لكنهم بدؤوا يفتقرون إلى الأموال النقدية لدفع فواتير الهاتف وشراء الوقود والصابون وضرورات يومية أخرى.

يقول خبير الاقتصاد اللبناني روي بدارو إن 65% من الشعب اللبناني كان ينتمي حتى الفترة الأخيرة إلى الطبقة الوسطى، لكنّ البنية الطبقية في لبنان شهدت انهياراً سريعاً، ويوضح بدارو: «خسرت الطبقة الوسطى ثلثَي قدرتها الشرائية تقريباً وانتقلت إلى الطرف المنخفض من الطيف، فحين تميل الطبقة الوسطى إلى الاختفاء بشكلٍ شبه كامل في أي بلد، لا مفر من أن يختلّ توازن النظام كله وينشأ اضطراب اجتماعي، ما يقودنا إلى المجهول».

كان لبنان يمر بأزمة صعبة قبل وقت طويل من ظهور فيروس كورونا، إذ تعود المشكلة في الأصل إلى فترة التسعينيات، حين اضطر البلد لإعادة بناء نفسه بعد الحرب الأهلية في العقد السابق، لكنّ لبنان عمد في تلك الفترة كما في الوقت الراهن إلى استيراد كميات هائلة من السلع من دون أن يُصَدّر شيئاً، مما أدى إلى إفراغ خزينة الدولة.

في عام 1997، جذب البلد الشتات اللبناني للاستثمار مجدداً في لبنان عبر تثبيت سعر الصرف على 1500 ليرة لبنانية مقابل الدولار الأميركي، مما سمح حينها بتقليص المخاطر المطروحة على المودعين، لكن في ظل الركود الاقتصادي، لا سيما بعد أحداث الربيع العربي وبدء الحرب الأهلية السورية، أهدرت الحكومات المتلاحقة الأموال ولم تطبّق أي إصلاحات، ثم أدى خليط قاتل من الفساد والمحسوبيات إلى إعاقة النمو الاقتصادي. للحفاظ على ثبات العملة، اتكل البنك المركزي على هندسات مالية تقدّم أسعار فائدة عالية لا يمكن أن تستمر طويلاً إلى كبار المودعين، في ما يُعرَف بـ»سلسلة بونزي» المدعومة من الدولة.

حين ترنّح الاقتصاد الحقيقي، أصبحت البنوك مكشوفة وشعر العملاء بالهلع، وعندما سارعوا إلى سحب أموالهم، فرضت البنوك تدابير صارمة من نوع «كابيتال كونترول»، اليوم، لا يعرف اللبنانيون العاديون إذا كانوا سيسترجعون أموالهم يوماً، كذلك، أدى نقص الدولار إلى زيادة قيمته مقابل تراجع الليرة المحلية، فانخفضت قيمة العملة التي يكسبها معظم اللبنانيين.

يواجه لبنان اليوم محنة كبيرة، فوفق تحذير صادر عن البنك الدولي في نوفمبر الماضي، كان متوقعاً أن يزيد الفقر في لبنان من 30 إلى 50%، لكن من المتوقع الآن أن ترتفع النسبة فوق هذه العتبة حين تتضح آثار انهيار قيمة العملة وتفاقم البطالة نتيجة الوباء المستجد، فثمة أنباء سيئة أخرى، حيث تتجه اقتصادات العالم إلى الانكماش هذه السنة، فتوقّع صندوق النقد الدولي انكماشاً بنسبة 12% في الاقتصاد اللبناني، وفي شهر مارس الماضي، أعلن لبنان للمرة الأولى عجزه عن سداد سندات اليورو التي تبلغ قيمتها 1.2 مليار دولار لإبقاء الأموال داخل البلد ودفع تكاليف الخدمات الأساسية، لكن هذا الوضع يجازف بانهيار مصداقيته بين الدائنين، وفي الوقت نفسه لا يزال دين لبنان ثالث أعلى دين في العالم، وهو يساوي 170% من الناتج المحلي الإجمالي.

بدأت الحكومة اللبنانية في الفترة الأخيرة محادثات مع صندوق النقد الدولي على أمل الاتفاق على خطة إنقاذ، وهي تسعى للحصول على قرض بقيمة 9 مليارات دولار من الصندوق، كما طلبت من الدول الأوروبية دفع تمويلٍ موعود منذ عام 2018 بقيمة 11 مليار دولار لإنعاش الاقتصاد المتداعي، لكن في ظل غياب الإصلاحات اللازمة للتعامل مع المحسوبيات والفساد المستفحل، يظن الخبراء أن أي اتفاق مع صندوق النقد الدولي سيرتبط على الأرجح بتدابير تقشفية قد لا ترضي المحتجين. يقول ناصر ياسين، أستاذ في الجامعة الأميركية في بيروت: «ستشمل تدابير التقشف تخفيض الوظائف في القطاعات العامة، مثل المعلمين وسواهم، وهذا الوضع سيؤدي حتماً إلى احتجاجات شعبية وردود سلبية من النقابات والمجموعات المهنية»، وحتى لو اعتُبِرت شروط صندوق النقد الدولي مقبولة ونجحت المحادثات، لن يستفيد الناس في الشوارع من هذه الظروف قبل مرور وقت طويل.

أصبح الفقراء والطبقة الوسطى الدنيا بأمسّ الحاجة إلى الدعم المالي، فهم أكثر المتضررين من الوضع، وعلى عكس الطبقات الوسطى الاعتيادية، لا يستطيع هؤلاء الحفاظ على كرامتهم، فهم مجبرون على الانتظار في صفوف طويلة خارج مطاعم الفقراء لتلقي رغيف خبز، حيث يعجّ وسط مدينة طرابلس بمعالم العمارة المملوكية العظيمة منذ القرن الرابع عشر، لكنه أصبح اليوم من أفقر مناطق لبنان، إذ يكسب 60% من سكان هذه المنطقة دولاراً واحداً يومياً، حتى قبل نشوء الأزمة الأخيرة، وبعدما كان السكان يستمتعون بقصصٍ عن مجد مدينتهم الغابر، من الواضح أنهم خسروا اليوم ثقتهم بأن إنجازات الماضي ستضمن عودة الزمن السعيد يوماً، فقد قُتِل شاب خلال الاحتجاجات الشعبية في الشهر الماضي، حين نزل آلاف الناس إلى الشوارع وراحوا يهتفون: «نحن جائعون»!

كان سكان طرابلس يأملون أن يصبح ميناء المدينة (ثاني أكبر مرفأ في لبنان يمتد على 19 ميلاً من الحدود السورية) معقلاً لإعادة بناء سورية، مما يسمح بإنقاذ مدينتهم في الوقت نفسه، لكنّ موعد إعادة إعمار سورية لا يزال مجهولاً، وحتى الآن يبدو أن سكان طرابلس، على غرار بقية المناطق، لا يستطيعون الاتكال إلا على بعضهم.

يعيش أبو سعد بالقرب من السوق القديم في وسط المدينة المليء بالآثار، ونظراً إلى غياب فرص العمل، قام بما فعله معظم اللبنانيين، فحوّل سيارة العائلة إلى سيارة أجرة، لكنه لم يكن يملك الرخصة المطلوبة، فحُجزت مركبته، فهو يحتاج إلى دفع 400 ألف ليرة، أي 100 دولار وفق سعر صرف السوق راهناً، لتسديد الغرامة واسترجاع وسيلة عيشه، لكنه لا يملك هذا المبلغ، وهو أب لأربعة أولاد ويتكل في الوقت الراهن على وجبات الطعام التي تقدمها الجمعيات الخيرية وعلى أقاربه لتسديد المصاريف الأخرى، لكنه لا يتوقع شيئاً من الحكومة.

يقول أبو سعد: «الحكومة ميتة بنظرنا، هي لم تهتم بنا يوماً ولن تهتم مستقبلاً، لذا سنتحداهم في الشارع»، ومن المتوقع أن يزداد زخم الاحتجاجات في لبنان في ظل توسّع المخاوف على جميع المستويات.