لمَ نقرأ الرواية البوليسية؟
by عربي21- ربيع محمود ربيعلو سألنا أنفسنا: لم نقرأ الرواية البوليسي؟ فإنّ الإجابة غالبًا ستتجه إلى ما تمنحه الرواية للقارئ من تدريب للملكة العقلية والقدرة على حل الألغاز، وإذا أراد المجيب أن يمنح الأمر معنى رمزيًا فإنه سيشير إلى التحذير الذي تحمله الرواية إلى كل من تسوّل له نفسه ارتكاب جريمة بأنه لا بد سيقع في الخطأ ويتم كشفه.
ولعل هذه الإجابة تفسّر جرائم مترجمي روايات أغاثا كريستي في حق رواياتها؛ إذ اشتغلوا كثيرًا على هذه الروايات حذفًا وتصريفًا واختصارًا، حتى إنّ الطبعات القانونية والكاملة لم تر النور بصيغتها العربية إلا مع مطلع القرن الجديد.
فليس من المستغرب أن تجد رواية من رواياتها تتجاوز الثلاثمئة صفحة في نسختها الأصلية قد تقلّصت في النسخة العربية إلى مئة صفحة؛ وذلك لأن اهتمام الناشر العربي –إذا تجاوزنا الأسباب المادية والتجارية- ينصب على ما يظن أنه تشويقي، فيقوم بقص وإزاحة كل ما يعترض طريق التشويق إلى قلب القارئ، وإن كان له غايات جمالية أخرى. كما أنه لا يبقي إلا على ما يدخل في باب اللغز وحله.
ولكن، هل حقًا هذه أسباب كافية لقراءة الرواية البوليسية؟ ... ربما علينا أولاً أن نقف على آلية عمل النّص البوليسي:
تبدأ الرواية البوليسية عادةً بتجميع الخيوط ولملمة أطراف القضية، وذلك باللجوء إلى السببية أو إلى افتعال الصدف، تمهيدًا لحصول اللقاء الذي يجمع بين القاتل والضحية والمحقق، ويحضر أيضًا الشهود والمتهمون الأبرياء وكل الشخصيات الثانوية التي قد تخدم مسار الرواية.
وتسير الرواية في تتبع الوقائع والأحداث ومعاينة الجريمة في سبيل كشف هوية القاتل، وهذا الكشف لا يحصل إلا بوقوع القاتل في خطأ يعبر عن الطبيعة الإنسانية غير الكاملة. هذا الخطأ هو محور الرواية البوليسية، إنه البنية التي ترتكز عليها الرواية.
وهنا يحق للقارئ أن يسألنا عن الآلية التي يعمل بها الخطأ في تشكيل الرواية البوليسية وعن علاقة ذلك بالقيمة الإنسانية؟
يبدو الأمر كما أنّ القاتل يدخل في تحدٍّ قاسٍ مع المؤلف؛ ففي حال اقترف القاتل هذا الخطأ فإنه سيفتضح أمره ويتم تعزيره والتشهير به زمنًا طويلا هو عمر قراءة الرواية التي ستكتب عن الجريمة، وهو أيضًا عمر تكرار قراءة الرواية عبر الزمن.
ولكن إذا نجح القاتل في الإفلات من الوقوع في هذا الخطأ، أي كان قاتلاً كاملاً، فإنه سيكسر قيد الرواية ويخرج إلى الحياة، ولن تكتب عنه رواية وسيعيش حياته الطبيعية دون أن ينغص حياته هاجس السجن وكشف الجريمة، ولن تخجل عائلته من انتمائه إليها.
اقرأ أيضا : "جنتلمان في موسكو": قدرة الرواية على تضمين رؤاها
إذن لن تكون هناك رواية وسيعيش القاتل بقية حياته سعيدًا بإفلاته من يد العدالة. إن هذا الافتراض يقودنا، للوهلة الأولى، إلى نقض أي منحى إنساني في الرواية البوليسية؛ فهي تقوم أساسًا على السخرية من الإنسان/ القاتل غير القادر على اقتراف جريمة كاملة، إنها تسخر من ضعفه وافتضاح أمره.
أما القاتل الكامل فإنها تتركه وشأنه بل تنحني له احترامًا وتتركه يمر خارج الرواية لأنه يستحق أن يعيش بين البشر، ولن تخبر عنه أحدًا من القرّاء.
ولكن هل علينا أن نركن بسهولة إلى هذه النتيجة؟
إننا بحاجة إلى إعادة تفحّص بنية الخطأ في الرواية البوليسية من زاوية أخرى؛ لذلك سنطرح سؤالاً عن مصير الإنسان الكامل الذي خرج من الرواية إلى العالم؟ صحيح أنه سينجو من العقاب لكنه سيذهب إلى النسيان والمجهول؛ سيتحول إلى نكرة لا يعرفها أحد.
وعلى العكس منه الإنسان الناقص الذي اقترف الخطأ، فإنه سيتم تخليد ذكراه وسيقابل العديد من الأصدقاء/ القرّاء، وسيشيرون إليه بالبنان.
ولفحص هذا الرأي المخالف للرأي السابق سنستدعي "هيركول بوارو" أحد أشهر محققي أغاثا كريستي، وهو المحقق الذي كلّفته الكاتبة بالتحقيق في الجريمة التي وقعت في رواية "جريمة في قطار الشرق السريع" (سنعتمد ترجمة دار جرير)، إنه يرد على السيد بوك –مدير شركة قاطرات عربات النوم- حينما يكلّفه هذا الأخير بمهمة التحقيق في قضية مقتل المسافر الأمريكي راتشيت، يرد عليه منتشيًا بعد أن يقبل القضية بالقول الآتي: "ومنذ أقل من نصف الساعة كنت أفكر في أن أوقات الضجر والسأم تمر بنا ريثما نجلس قابعين في أماكننا هنا".
إن الأجواء في الرواية تغرق في الرتابة والملل، حتى جاءت الجريمة لتقلب هذا العالم ولتدخلنا في أجواء التشويق والإثارة، إنها رحلة الكشف عن طبيعة الإنسان غير الكاملة. إننا أمام طقس بدائي يبحث عن الخطأ ليحتفي به ويخلده.
وفي المقابل فإنها تبدو قاسية في تعاملها مع الذين يتنكرون لهذا الطقس؛ فالضحية راتشيت (وهو اسم مستعار لقاتل أطفال) سبق له أن أفلت من الخضوع لطقوس الخطأ، وتمت تبرئته من قضية خطف وقتل طفلة.
لذلك سنجده لاحقًا يتعرّض لجريمة قتل بشعة؛ إذ سيلقى مصرعه بعد أن تمزقه اثنتا عشرة طعنة بالسكين.
إن تمرد الضحية على قانون الخطأ والجريمة غير الكاملة سيدفع به إلى هذا المصير البشع، والكاتبة تضع أمامنا مصير كل من يفكر بالتمرّد على بنية الخطأ؛ فهو سائر إلى النسيان أو مصير أكثر بشاعة.
لذلك دفعت أغاثا كريستي بالضحية إلى هذا المصير المأساوي، بينما أطلقت سراح القتلة الذين انتقموا للعائلة التي حطمها الضحية راتيشت.
وبينما استطاع المحقق بوارو أن يكشف خيوط الجريمة ويحظى باعتراف القتلة الاثني عشر، فـإنه يجد لهم مخرجًا ويتركهم طلقاء؛ ليس لأن راتشيت قاتل كما تحاول الرواية أن تقول ذلك، بل لأنّ عقل المجرم تفوّق على عقل المحقق (ممثل الكاتب على أرض الرواية)، فكان لا بد له من هذا المصير البشع. وكان لا بد من إطلاق سراح القتلة مكافأةً لهم على تنفيذ الرغبة الكامنة في لا وعي الكاتبة.
وفي المقابل فإن عقل المحقق في الرواية البوليسية هو عقل من خارج العالم الإنساني؛ إنه رسول الكاتبة/ خالقة النّص إلى الإنسان الناقص ليقف أمامه كما يقف أمام المرآة، فيرى أخطاءه ثم يريه إياها، ثم يدخلان في طقس الاحتفاء بالخطأ وتخليده عبر المرور به أمام أعين قرّاء كثيرين يشتركون معهما بإحياء هذا الطقس البدائي، متعلقين بهما. لذلك فإن المحقق يبقى خارج معادلة الكمال/ النقصان التي يقابلها النسيان/ الخلود.