الهوية الوطنية تحفّز السعوديين على تقبل الانتقال من الرفاهية إلى التقشف
السعوديون ينظرون إلى إصلاحات ولي العهد الأمير محمد بن سلمان كطريق للخروج من الأزمة.
by العربأزمة النفط ستفرض على السعودية أن تغير استراتيجيتها الاقتصادية وأن تبدأ بالتقشف وتقليص الرفاه الذي وفرته لمواطنيها خلال عقود كانت تميزت بوفرة العائدات، وهي تراهن على ولاء السعوديين لهويتهم ودولتهم لتمرير الإصلاحات القاسية، فضلا عن تنفيذ رؤية 2030 لولي العهد الأمير محمد بن سلمان التي تريد أن تنوع مصادر الدخل وكسر الارتهان لعائدات النفط. ورغم وجود قوى تقليدية قد لا تقبل التخلي عن مكاسبها من دولة الرفاه، فإن الأجيال الجديدة ستكون الأقرب إلى تقبل الإصلاحات والدفاع عنها.
الرياض - يقوم العقد الاجتماعي في السعودية على التلازم بين الرفاه والولاء للهوية الوطنية السعودية، التي يتداخل فيها الولاء للدولة وقيادتها بالوازع الديني، لكن أسعار النفط المنخفضة تقوّض من مزايا هذه الرفاهية. وعلى الرغم من ذلك، ولحسن الحظ ستعمل الهوية الوطنية، أو ما بات يعرف بالسعْودة، على الحفاظ على قوام العقد الاجتماعي السعودي في عام 2020.
وتجد الهوية السعودية نفسها أمام تحدي الأزمة الاقتصادية الناجمة عن مخلفات أزمة كورونا وتهاوي أسعار النفط وعدم قدرة الدولة على الإيفاء بصورتها القديمة كدولة للرفاه تطلق أيادي المسؤولين للإنفاق بلا حساب لاسترضاء المواطنين بزيادة الرواتب والترفيع في العلاوات التي تجعل الانتماء كمقابل موضوعي لما تقدمه الدولة من مزايا.
لكن الصورة تسير نحو تغييرات جذرية، فالدولة لم تعد قادرة على حماية صورتها القديمة كدولة للرفاه والإنفاق بسخاء، كما أنها هزت من الرابط الديني التقليدي القديم القائم على التشدد والذي خلق مشاكل كثيرة للمملكة. وكانت إصلاحات ولي العهد الأمير محمد بن سلمان بمثابة الصدمة للقوى الدينية المتنفذة في البلاد، والتي دأبت على تقديم نفسها كناطق رسمي باسم الدين والمملكة في آن واحد، أي هي المعبر عن الهوية الدينية والهوية القومية السعودية بشكل لا يستطيع أحد أن يجد فوارق بينه الهويتين.
السعودية الجديدة
نجح التيار المتشدد، وأغلب أفكاره وافدة على البلاد سواء من إخوان مصر أو سوريا، في أن يصنع هوية بلون واحد، لكن يجري الآن السعي إلى تنويع هذه الهوية بإدخال الخصوصيات إليها، من ذلك إظهار تاريخ البلاد إلى المناهج الدراسية، والبحث عن العادات والتقاليد مثل خصوصيات الطعام واللباس والشعر والأغاني.
والهدف هو إظهار أن السعودية ليست فقط تطبيق الشريعة، كما رسمه المتنطعون القادمون من الخارج، أي حثّ على الجهاد والموت والانكفاء على النفس خوفا من البدع، ولكن أيضا تقاليد للفرح والحياة يزخر بها تاريخ البلاد.
واهتزت صورة الولاء الديني للدولة بمفهومه التقليدي القائم على السمع والطاعة، في انتظار أن تبني السعودية الجديدة ولاء دينيا منفتحا يجمع من حولها الناس، خاصة من الأجيال الشبابية والتي درس الكثير منها في الغرب ويحلم بكسر الفضاء المغلق القائم على المنع والتحريم، والانفتاح على الموسيقى والمسرح والسينما والأغاني الشبابية التي كانت تصنف كفتنة ويفرض على الناس أن يستمعوا لها سرا.
وبالنتيجة، فالسعودية الجديدة تفقد رافدين لصورتها القديمة، الولاء الديني الأعمى الذي يساوي بين النص الديني وولي الأمر، والولاء لدولة الرفاه الممولة بالريع النفطي، وهي تتحول تدريجيا لبناء نموذج جديد من الولاء قائم على ولاء ديني واقتصادي مرن يضع في الحسبان أن السعودية تحتاج إلى أن تتغير وتعيد إنتاج صورتها كدولة نفطية استهلاكية إلى دولة منتجة وقادرة على تنويع مصادر دخولها تحسبا لمرحلة ما بعد النفط.
وتقوم السعودية الآن برفع الضرائب وتقليص حجم الدعم في الوقت الذي تتبنى فيه سياسة تقشف، مرة أخرى لاختبار متانة عقدها الاجتماعي مع مواطنيها. وبينما تبدأ المملكة هذا العقد من نقطة صعبة، إلا أن الهوية الوطنية لا تزال تقف إلى جانبها.
وتستخدم الدولة السعودية دخل النفط لتوفير المسكن للسعوديين ولتوظيفهم ولإشعارهم بالارتياح من الناحية الاقتصاديًة.
وحتى عام 2018، لم تشمل هذه الخطوات فرض أي ضرائب. لكن خلال فترات انخفاض أسعار النفط يتعين على الرياض إجراء بعض التخفيضات على هذه الرعاية. حيث أجبرت حرب الأسعار الروسية السعودية وأزمة وباء كورونا الحكومة على مضاعفة ضريبة القيمة المضافة ثلاث مرات وخفضت بدلًا شهريًا قدره 270 دولارا للموظفين الحكوميين، تم إقراره في وقت سابق لتعويض تخفيضات الدعم السابقة، ووضع العقد الاجتماعي للمملكة تحت الضغط.
ويقول ريان بول في تقرير لمركز “ستراتفور” إنه على الرغم من ذلك، ولحسن الحظ ستعمل الهوية الوطنية على الحفاظ على قوام العقد الاجتماعي السعودي في عام 2020. وتؤكد مبادئ الوطنية في السعودية على هوية المملكة بعبارات راسخة، وإن هذا النظام العقائدي لا يربط “السعودة” بالأرض فحسب، بل أيضا بقيادتها، العاهل السعودي الملك سلمان بن عبدالعزيز، وولي العهد الأمير محمد بن سلمان.
كما يتم تعزيز الهوية السعودية من خلال التأكيد على الأعياد الوطنية مثل العيد الوطني للمملكة، والذي يحدث في 23 سبتمبر، وكذلك من خلال تغيير معايير التعليم التي تفصل الهوية السعودية عن الهوية الدينية المتشددة، والتركيز على بعض أنشطة الترفيه وأنماط الحياة التي كانت محرّمة في ظل القيود الوهابية.
ومن المرجح أن يتبنى السعوديون من الشباب بشكل كبير جهود الحكومة لتعزيز الهوية الوطنية لتعويض الصدمة الناتجة عن المشاكل الاقتصادية. وبالفعل، يقوم السعوديون من الشباب بشكل عام بالتأكيد على هويتهم الوطنية وتفضيلها عن هوياتهم المحلية أو الطائفية.
ويتبنى الشباب السعودي الآن في المدن الكبرى مثل الرياض ومكة والمدينة المنورة فكرة الخدمة الوطنية والتعليم العلماني والاختلاط بين الجنسين في تناقض صارخ مع الشباب المحافظ في فترة السبعينات والثمانينات من القرن الماضي الذين توافدوا إلى المدارس الدينية وعملوا على ضبط أنفسهم تجاه أقرانهم في شكل من أشكال الالتزام بأنماط حياة إسلامية صارمة.
وما يزيد من الضغوط على استراتيجية السعودية في خلق شراكة بين الدولة والمواطنين تقوم على تقاسم الأعباء، ولو بالحد الأدنى، أن الدولة كانت توفر كل شيء وبسخاء، وهو أمر من الصعب أن يتقبله الناس بسهولة مثلما حصل مع القرارات الأخيرة بإيقاف بدل غلاء المعيشة والرفع في ضريبة القيمة المضافة.
تقاسم الأعباء
لسوء الحظ بالنسبة للسعودية، فإنه لا يجب عليها فقط تمويل رفاهة السعوديين، ولكنها تحاول أيضا تمويل إعادة الهيكلة الطموحة للاقتصاد السعودي المعروفة باسم رؤية 2030 بينما تواجه أزمة تراجع الطلب على النفط وتدني الأسعار، ما يجعل من الصعب التكهن بما إذا كانت ستتمكن من تحقيق خيارها الاستراتيجي.
وكان وزير المالية محمد الجدعان أعلن أن بلاده قررت “إيقاف بدل غلاء المعيشة بدءا من شهر يونيو لعام 2020 وكذلك رفع نسبة ضريبة القيمة المضافة من 5 في المئة إلى 15 في المئة بدءا من الأول من شهر يوليو لعام 2020”.
وأضاف الجدعان أن “الإجراءات التي تم اتخاذها وإن كان فيها ألم إلا أنها ضرورية للمحافظة على الاستقرار المالي والاقتصادي من منظور شامل وعلى المديين المتوسط والطويل.. وتجاوز أزمة جائحة كورونا العالمية غير المسبوقة وتداعياتها المالية والاقتصادية بأقل الأضرار الممكنة”.
ويعتقد مراقبون أن السعودية ستكون مجبرة في المرحلة القادمة على اتخاذ إجراءات تقشف قاسية لمواجهة تدني أسعار النفط رغم أنها خرجت أقل المتضررين من معركة النفط الأخيرة مع روسيا، مشيرين إلى أن إيقاف بدل غلاء المعيشة فيه عزم من الحكومة السعودية على تحميل المواطن جزءا من أعباء الإنفاق.
وستفرض المرحلة الجديدة على المواطن تعويد عيشه على نمط جديد يفقد فيه بعض العلاوات والحوافز والرفاه الذي كانت توفره الدولة منذ عشرات السنين. ويعمل نحو 1.5 مليون سعودي في القطاع الحكومي، بحسب الأرقام الرسمية المنشورة في ديسمبر الماضي.
وفي 2018، أمر الملك سلمان بصرف علاوة ألف ريال (267 دولارا) لكل موظف بالدولة تعويضا عن ارتفاع تكاليف المعيشة.