الأمن أم الحرية.. مفاضلات ومقايضات ما بعد الوباء
تشديد الرقابة الأمنية يضع الناس أمام حتمية الاختيار الصعب في ظل تخوفات كبرى من تطويع الحكومات للجائحة.
by العربيجمع المفكرون والباحثون على حقيقة باتت أشبه بأنها ثابتة وهي أن العالم ما بعد كورونا لن يكون مثلما ما كان عليه الأمر قبل ظهور الوباء. وبعيدا عن التأثيرات السياسية والاقتصادية التي ستشعل حروبا جديدة بين القوى العظمي، توجد أيضا تخوفات كبرى من أن تطوع الحكومات هذه الجائحة لتضع المواطنين في معادلة صعبة ومقايضة تقوم على الاختيار العسير بين الأمن والحرية عبر تشديد الرقابة الأمنية على المعطيات الشخصية للأفراد.
لندن - تتصاعد مخاوف المنظمات الحقوقية من أن تستثمر الحكومات الإجراءات المتخذة لمواجهة وباء كورونا لتوظفها في مسارات موازية تستهدف تشديد الرقابة الأمنية والتجسس على المعطيات الشخصية للمواطنين.
وتستخدم كل الحكومات تقريبا في إطار إجراءات الوقاية من وباء كوفيد – 19، التطبيقات الهاتفية والتكنولوجيا المتقدمة لمراقبة انتشار الفايروس، ومنها على وجه الخصوص الطائرات المسيّرة والقوى الأمنية لفرض حظر التجوّل وتدابير الإغلاق.
وموازاة مع تأكيد الكثير من المفكرين وعلى رأسهم الفيلسوف الأميركي نعوم تشاومسكي بأن شكل العالم والنظام الذي سيقوده في مرحلة ما بعد كورونا سيكون مغايرا لما سبق، فإن المنظمات الحقوقية تكرس حيزا هاما من بلاغاتها وبياناتها للتحذير من الانزلاق نحو توظيف الأسلحة التي تواجه بها الحكومات فايروس كورونا لتكميم الأفواه وخنق الحريات الفردية والعامة.
تكميم الأفواه
تتواصل السجالات السياسية والفكرية في زمن وباء كورونا بشأن إمكانية تفوق الطابع الاستبدادي على النظام الديمقراطي الذي يضمن الحريات والحقوق. ويحذر الباحثون من أن تلجأ بعض الحكومات المستبدة إلى وضع مواطنيها في معادلة صعبة قوامها الأمن أو الحرية.
ومنذ بداية ظهور فايروس كورونا، خصصت منظمة العفو الدولية ورقة أطلقت فيها جملة من التوصيات والتحذيرات من السياسات القمعية التي قد تعتمدها الحكومات.
وتقول منظمة العفو الدولية في الورقة المذكورة إنه من الممكن أن تلعب التكنولوجيا دورا مهما في غمار الجهد المبذول لمكافحة فايروس كورونا، لكنها تحذر من أن تلجأ الحكومات باسم محاربة المرض إلى استعجال توسيع استخدامها لتقنيات المراقبة لتعقب الأفراد والتضييق على الحريات.
وتشدد المنظمة على أنه إذا لم يتم كبح هذه التدابير فيها فإنها قد تحمل في طياتها احتمال تغيير مستقبل الخصوصية وغيرها من حقوق الإنسان بصورة جوهرية.
بنفس الطريقة تقريبا يرتكز المراقبون على تجارب سابقة حولت إجراءات الرقابة من الثوابت الدائمة في الدول حيث توسع في أعقاب هجمات 11 سبتمبر 2001 جهاز الرقابة الحكومي توسعا ملموسا أفضى إلى التجسس على المعطيات الشخصية للأفراد.
وتستخدم دول عديدة بيانات الهواتف لتتبع تحركات الناس في مواجهة جائحة كوفيد – 19. وبحسب ما ورد في تقارير عدة تجمع النمسا، وبلجيكا، وإيطاليا، والمملكة المتحدة، وألمانيا جميعها بيانات مواقع مجمّعة أو من دون أسماء من شركات الاتصالات لتعقب المحتكين بالمصابين بفايروس كورونا.
ويخشى في هذا الصدد، أستاذ التاريخ في جامعة كمبريدج المتخصص في تاريخ الأوبئة خالد فهمي من أن تستغل الحكومات وباء كوفيد – 19 لتعزيز رقابتها الأمنية على المواطنين.
ويقول الأستاذ الجامعي المصري (56 عاما) في مقابلة مع وكالة فرانس برس من كمبريدج “الطريقة التي ستتمكن بها الحكومات من مراقبة أفعال وتحركات كل شخص تدعو للقلق”.
ويضيف “الخوف يرجع إلى أنه بمجرد التنازل عن هذه الحقوق (الشخصية) للحكومات، يصعب استردادها بعد انتهاء الأزمة”. ويشير في هذا الصدد إلى التجربة المصرية التي يتابعها عن كثب. وعاش فهمي اللحظات التاريخية لثورة يناير 2011 في مصر التي كان عاد إليها قبل أشهر من بدء الحركة الاحتجاجية ضد الرئيس الراحل حسني مبارك. وكتب كثيرا من جهة أخرى عن الأوبئة في الشرق الأوسط.
وصادقت الكثير من دول العالم ومنها مصر على مجموعة من التعديلات لقانون الطوارئ اعتبر المدافعون عن حقوق الإنسان أنها تعزز من “السلطات القمعية” للحكم باسم مكافحة فايروس كورونا المستجد.
ويقول المؤرخ المصري “إذا قارننا ما يحدث الآن بما حدث إبان انتشار وباء الكوليرا في العام 1947، سنجد أن الفارق الكبير هو وسائل الإعلام والانفتاح الذي كانت تعتمده في ذلك الوقت، في حين أنها اليوم مغلقة في ما يتعلق بتغطية الوباء”.
ويتعرض العشرات من المدونين والصحافيين في دول عربية عدة وكذلك في إيران إلى مضايقات واعتقالات بتهم نشر أخبار زائفة وكاذبة بشأن وباء كورونا. ويرى فهمي “ما نواجهه اليوم أخطر بكثير.. لأننا إزاء نوع جديد من المراقبة واقتحام للخصوصية باسم السيطرة على الوباء”. وضاعفت الكثير من الدول إجراءات الوقاية من الوباء من ذلك تعزيز دور الجيش في الحياة العامة في مصر بعدما انتشرت وحدات من الجيش في الشوارع والمنشآت العامة لتعقيمها. كما قام الجيش بتوزيع كمامات وبيعها للمصريين بأسعار مخفضة.
كابوس 2019
ترتفع أصوات الآلاف من المدافعين عن حقوق الإنسان من أن تجد الدول المستبدة والأكثر انغلاقا كما الدول الديمقراطية خلاصها في وباء كورونا من كابوس عام 2019 الذي كان عاما احتجاجيا ومطلبيا بامتياز.
وقبل ظهور الوباء في مدينة ووهان الصينية عام 2019، عرفت دول كثيرة موجة من الاحتجاجات التي وصلت إلى حدّ الإطاحة بنظم سياسية ورؤساء مثل السودان حيث أطاحت بنظام عمر البشير والجزائر التي ثار شعبها ضد الرئيس عبدالعزيز بوتفليقة ما أجبره على التنحي عن كرسي الرئاسة.
كما اجتاحت فرنسا التي تعد دولة عريقة في الديمقراطية موجة احتجاجات السترات الصفراء التي دفعت الرئيس إيمانويل ماكرون إلى التنازل عن بعض الإجراءات المتعلقة بالضرائب.راهنا يصنف الكثير من المراقبين الإجراءات المشددة لمواجهة كورونا في خانة التوظيف السياسي من قبل الحكومات لإسكات أصوات المحتجين. ولعل أبرز مثال على إمكانية أن تتعلّل بعض الحكومات بالحرب على الوباء في مقابل إدارة الظهر لمطالب اجتماعية ملحة وهو ما يحصل في تونس، حيث يحذر خبراء من أن تنتهج حكومة إلياس الفخفاخ هذه السياسة خاصة أنها أمسكت بدواليب الحكم مباشرة مع بداية فايروس كورونا.
وكشفت جائحة كورونا وما رافقها من فرض لحظر التجوال وقوانين الطوارئ ونزول لقوى الأمن والجيش إلى الشوارع حتى في بعض الدول الديمقراطية تساؤلات حول ما إذا كانت سلطة الدولة ستتوسع بفعل هذا الوباء لتقيد الحريات تحت ذريعة الحفاظ على الأمن وعلى صحة المواطنين. ويحذر المراقبون من الانزلاق وراء الخطابات التي تمجّد النموذج الصيني واعتباره الأمثل والأفضل في احتواء الوباء بفضل الإجراءات المتشددة لتي اتبعتها الحكومة الصينية.
وفضح الوباء نوايا الكثير من الحكومات وخاصة الحكومة الإيرانية التي واجهت الجائحة بحملات الاعتقالات ضد الصحافيين الناشطين.
ويقول مراقبون إن عدد المفرج عنهم في إيران في إطار خطة مكافحة كورونا كشف حجم الاعتقالات التي تطال عددا من السجناء لأسباب قد تكون في بعض الأحيان واهية. وسبق لمنظمة العفو الدولية أن أشارت في تقرير نشر في أواخر ديسمبر 2019 إلى الآلاف من الأشخاص الذين يتم اعتقالهم بشكل تعسفي في إيران، بعد موجة احتجاجات في نوفمبر، مشددة على الانتهاكات التي يجري تسجيلها خلال محاكمتهم.
وتحدثت من جهتها منظمة هيومن رايتس ووتش في شهر أبريل عن دول عديدة عبر العالم تستغل انتشار فايروس كورونا لارتكاب المزيد من انتهاكات حقوق الإنسان والتضييق على الحريات.
وبحسب تقرير المنظمة، فإن من بين تلك الدول مصر والصين والهند وميانمار وكمبوديا، ودولا أخرى عديدة. وأظهر التقرير أن المسؤولين الحكوميين في مصر وميانمار والهند والصين والولايات المتحدة وزيمبابوي كانوا من بين أكثر المسؤولين في دول العالم إنكارا بشأن تقديم معلومات دقيقة حول تفشي الفايروس. وأضافت المنظمة أن السلطات في كل من مصر والصين وميانمار وإثيوبيا قامت باعتقال أو احتجاز أو طرد صحافيين وغيرهم، بسبب قيامهم بالتعبير عن آرائهم حول تفشي كورونا عبر وسائل التواصل الاجتماعي.
وأشار التقرير إلى قيام السلطات المصرية الشهر الماضي بطرد مراسلة صحيفة الغارديان البريطانية بسبب تقرير أعدته، وشككت في الإحصاءات الرسمية لحالات الإصابة في مصر، واستندت في التقرير إلى بحث غير منشور لمتخصصين كنديين في الأمراض المعدية. وتظهر كل هذه الحالات أن الهاجس الأكبر أمام الناس بات متعلقا بوجوب إلقاء نظرة استشرافية وبعيدة المدى تخص الإجراءات التي تتخذها لمكافحة الفايروس، ما يطرح التساؤل حول هل سيستمر اعتماد القيود نفسها بعد انتهاء الأزمة ؟ وهو مبحث يمكن أن يحدد شكل الرقابة في عالم ما بعد الوباء.