وباء آخر أخطر من كورونا يضرب الجيش الأبيض في مصر
الطواقم الطبية تواجه الفايروس دون ضمانات وتحذر من انهيار تام للنظام الصحي.
by رحاب عليوةيواجه الطاقم الطبي في العالم خطر الموت في محاربته وباء كورونا، وفي مصر يهدد الفايروس العاملين في القطاع الصحي لعدم وجود ضمانات ما جعل نقابتهم تتدخل لحمايتهم، ومطالبة وزارة الصحة بإقحام من توفّي منهم في صندوق الشهداء وتوفير المستلزمات الطبية وفرض حظر تجوال شامل للسيطرة على الوباء.
القاهرة - حذرت نقابة الأطباء المصريين الاثنين من انهيار تام للنظام الصحي في البلاد، واتهمت وزارة الصحة بالتقاعس في حماية العاملين في مجال الرعاية الصحية من فايروس كورونا، بعد أن تسبب الوباء في وفاة 19 طبيبا وإصابة أكثر من 350 آخرين.
وأخرج الموقف الصارم للنقابة أزمتها المكتومة مع وزارة الصحة إلى العلن، وانقسم الأطباء إلى فريقين. أحدهما وقف في صف النقابة المنوط بها الحماية المعنوية وتوفير الخدمات المادية، والآخر انحاز إلى وزارة الصحة التي تبذل جهدا كبيرا لاحتواء المرض. وتحولت الأزمة إلى كرة لهب، كل طرف يحاول الدفع بها بعيدا عنه، حتى استعادت رواسب كثيرة من الماضي، اعتقد كثيرون أن الأوضاع الجديدة في مصر تجاوزتها.
لعبت نقابة الأطباء في مصر دورا مهما كحائط صد أمام كل مهادنة تظهر مع الحكومة، بخلاف غالبية النقابات التي ارتاحت للتفاهمات مع الحكومات وما تحققه من مكاسب.
وعلى مدار سنوات دخلت النقابة في معارك عدة مع حكومات متباينة على وقع أزمات تخص المهنة ومشاريع قوانين مثيرة، ما جعلها تحتفظ بخط سياسي معارض له باع طويل في العمل العام، جراء خضوعها لفترات طويلة لهيمنة جماعة الإخوان. ورغم رحيل الجماعة عن المشهد السياسي، إلا أن بصماتها لا تزال مستمرة وتظهر على المحكّات الرئيسية.
وأرجع بعض المراقبين الأزمة الأخيرة بين الطرفين إلى نشاط بعض خلايا الإخوان النائمة لإحراج الحكومة التي رفعت من شأن الأطباء وجعلتهم بمثابة جيش آخر، واتهامها بالعجز في الدفاع عنهم، وتجاهل تضحياتهم.
ويشهد الشارع المصري حاليا جدلا واسعا بين دور الطاقم الطبي وواجبهم في الوقوف بالصفوف الأولى في معركة كورونا دون انتظار مقابل، وبين تضحياتهم التي لا تقدرها جيدا وزارة الصحة، وانتقل الجدل من النطاق الطبي والإنساني، حتى أخذ مناحي سياسية عدة.
وأفقد التسييس النقابة قوتها المعهودة ووضعها في خانة التهميش بعدما أضحت الكلمة العليا لوزارة الصحة في القرارات المتعلقة بإدارة أزمة كورونا، بالتالي فقدت النقابة ورقتها الفعالة بإعلان الإضراب، مع علمها أن مجرد التلويح به في ظل جائحة قاتلة يعني الانتحار، ووضع أعضائها في مواجهة غضب عارم، لذا ليس أمامها سوى الالتماس والانتقاد اللفظي وترقب ما يمكن أن تسفر عنه قرارات الحكومة.
وعلى عكس المتوقع، لم تُسجل نقابة الأطباء في مصر تأثيرا يُذكر خلال جائحة كورونا، مع أنها المعنية الأولى بالوباء مع اصطفاف أعضائها في الخطوط الأمامية لمواجهته، لكن هذا الصمت لم يدم طويلا، حيث تحركت النقابة خلال الأيام الماضية، كأنها تريد أن توحي بحضورها في مكافحة كورونا من خلال استرداد مقعدها في الدفاع عن أعضائها.
واحتفظت النقابة بغليانها وسط التجاهل المستمر لمطالبها، ما أفقدها تأثيرها الذي تسبب في أزمات بنكهة سياسية خرجت من أروقة المستشفيات كجماعة خدمية، وأصبح لها صدى واسع في الشارع، فيما الحكومة تتصدر المشهد متمثلة في وزارة الصحة من خلال بيان يومي يعلن أرقام المصابين والوفيات في ظل ترقب جماهيري واهتمام بالغ بما يوصف بـ”الجيش الأبيض”، في إشارة إلى الطاقم الطبي.
قواعد للمراوغة
فقدت النقابة أدواتها في الضغط، بداية من الإعلان عن احتجاج ما، ثم اعتصام ما، وصولا إلى تنفيذ مطالبها أو القبول بحلول وسط، حسب الطقس مع كل أزمة، أما الآن فقواعد المراوغة تغيرت، وبات الانسحاب من مواجهة الفايروس خيانة لا تقع النقابة فيها.
بدا كورونا فرصة سانحة لوزارة الصحة لبسط نفوذها دون منازع بين القرارات الحكومية والأطباء الذين وجدوا أنفسهم مضطرين للمثول لها وتجاهل نقابتهم، وإلا سيلاحقهم عار الانسحاب من أرض المعركة، ولم تعد لها سلطة أو قدرة على تجاوز الخطوط الحمراء.
وأعلنت النقابة مبكرا رفضها بروتوكول لعلاج الأطباء من كورونا يُحرم بموجبه المخالطون للحالات الإيجابية من إجراء فحص للفايروس ما لم تظهر عليهم الأعراض الحقيقية، وغلق المستشفيات التي تظهر فيها حالات كثيرة ليومين فقط لحين تعقيمها ثم استئناف العمل.
وبسبب هذا الإجراء البطيء توفي أحد الأطباء الأحد الماضي، فضخت الدماء في عروق النقابة، وعادت إلى سيرتها المسيسة، فقد خرجت الأزمة عن نطاقها الطبي إلى المجال السياسي وتحولت إلى خنجر يطعن في ظهر وزارة الصحة.
وحذرت النقابة من البروتوكول المعتمد، فوفقا لتقديرها العلمي قد يرفع عدد الإصابات بين الأطقم الطبية ويحول المستشفيات إلى بؤر لنشر الوباء، وأرسلت مناشدات لتغييره.
وفي واحدة من الأزمات التي طفت على السطح بين أطباء الدفعة الأخيرة لخريجي كليات الطب ووزارة الصحة حول التعيين في المستشفيات الحكومية، وبين رغبة الخريجين اتباع النظام القديم، والوزارة التي تريد تطبيق نظام حديث، لم تتصدر النقابة المشهد كالمعتاد.
قامت النقابة بدور أقرب إلى الوسيط وليس المفاوض القوي، وصحيح أنها تبنت مطالب الشباب الخريجين وانتقدت الحكومة في تلبية مطالبهم وإهدار طاقة نحو سبعة آلاف طبيب وطبيبة يمكن أن يوظفوا لمواجهة كورونا، لكن المفاوضات من قبل المسؤولين كانت تجري مع ممثلي الطلاب مباشرة، والنقابة محض ساحة تظاهر فيها شباب الأطباء ورفعوا مطالبهم حتى أعلنت الوزارة أخيرا عن استجابة فضفاضة لرغباتهم.
يمكن فهم تعامل الحكومة السلبي مع نقابة الأطباء في ضوء تاريخ طويل من الصدام، فخلال الأعوام الماضية التي خفتت المعارضة في النقابات المهنية والعمالية، بعدما اعتلت غالبيتها جلبابا قريبا من النظام، كانت نقابة الأطباء الوحيدة العصية على التغيير.
وظلت محتفظة بوجوه لها سجل طويل في المعارضة، في مقدمتها منى مينا منسقة حركة أطباء بلا حدود، وهي واحدة من وجوه ميدان التحرير البارزة خلال ثورة 25 يناير 2011، وأسهمت بنشاط سياسي ملحوظ قبل الثورة وبعدها في الحركات المطالبة بالتغيير.
دخلت هذه السيدة ومجلس النقابة التي كانت عضوا في صفوفه في صدامات مع الحكومة، أهمها في عام 2018 بعد الاعتداء على طبيبين في مستشفى المطرية بشمال القاهرة من شرطي، وصعدت الأزمة وصولا للإضراب حتى تم إخضاع المعتدي للتحقيق.
ومع بداية التصرف الحكومي الحكيم صوب الجائحة، رأى البعض إمكانية أن تتحول الأزمة إلى جسر يمكن العبور به إلى بناء الثقة والتعاون بين النقابة ووزارة الصحة، على اعتبار أن الموقف أكبر من الطرفين ويتجاوز الخلافات التقليدية، لكن التعامل الرسمي عكس فقدان ثقة متجذرة من الحكومة تجاه النقابة ووجوهها المعارضة.
دعمت النقابة بنفسها حظوظها السيئة، لأنها لم تصدر ما يفيد تنحية أي قضايا أو خلافات سابقة في هذا الوقت الحرج، وعندما أدركت أن الحكومة مسيطرة بدأت في تعديل نبرتها وتقديم الالتماسات لتغيير القرارات التي تُعرض أعضاءها للخطر، لكنها لم تحصل على نتيجة ملموسة.
ثقة مفقودة
يقول أمين الصندوق في نقابة الأطباء المصرية، وأمين صندوق اتحاد المهن الطبية، محمد عبدالحميد لـ”العرب”، “لا يوجد تعاون بين نقابة الأطباء ووزارة الصحة أو تنسيق على أي مستوى، النقابة طالبت دون جدوى بتوفير المستلزمات الطبية لمواجهة الوباء وإلغاء بروتوكول العلاج للأطباء، واقترحت فرض حظر تجوال شامل للسيطرة على الوباء”.
وأضاف أن الحكومة تستند في تصرفها صوب عدم التوسع في إجراء المسحات للأطباء على حجة توفير النفقات، وعدم زيادة الأعداد اليومية للإصابات، وتحاشي تعطيل عدد أكبر من الأطباء عن العمل، إذا أجريت لهم المسحات وظهرت إيجابية.
بحسب عضو مجلس النقابة، يعكس المنطق الحكومي غير المعلن أنه لا منطق في إدارة الأزمة، إذ يهدد بزيادة الإصابات بين صفوف الأطباء ما يعجل بالعجز في العنصر البشري في مواجهة الوباء، كما أنه يحول الأطباء إلى بؤرة لنشر المرض بتعاملهم مع مرضى آخرين ممن يعانون من أمراض بالأساس، أي يجعلهم من الفئات المعرضة أكثر للخطر.
ولا تثق الحكومة من جهتها، وهي تحاول تصدير تطمينات للجمهور، في مساعدة النقابة لها لتحقيق المبدأ ذاته، إذا صارحتها بالموقف ككل وشاركتها أفكارها وتلقت اقتراحاتها في غرف عمليات بعيدة عن ضجيج الإعلام.
ودعمت النبرة التي يتبناها أعضاء النقابة في انتقاد أداء الحكومة في التعامل مع الجائحة، رؤية وزارة الصحة التي تتبنى شعار “لا صوت يعلو فوق صوت المعركة، ولا يمكن أن تشرك في إدارة المعركة من لا يثقون في حكمتها”.
ويشير أستاذ العلوم السياسية بالجامعة الأميركية في القاهرة مصطفى كامل السيد إلى أن الأزمة أكبر من كورونا ومجلس نقابة الأطباء الحالي، قائلا “الحكومات المصرية منذ عقود طويلة لديها أزمة ثقة وتواصل مع المؤسسات المدنية، ولم تخرج الحكومة الحالية عن المعهود، حتى أن الأزمة الحالية الأطباء قاعدة المواجهة فيها”.
ولفت إلى أن الاستبشار المبدئي بتعامل الحكومة مع الجائحة والذي خلق حالة من الرضا الشعبي عن أدائها تراجع مع زيادة الإصابات والوفيات وتوجه الحكومة للتعايش مع كورونا، لذا فالرهان على إمكانية أن يُصلح الفايروس ما فسد بين الحكومة والنقابات لم يعد واردا.
ويتفق أمين صندوق نقابة الأطباء مع رأي السيد، قائلا “لا أعتقد أن تهميش النقابة يتم لخلفية سياسية لبعض أعضاء مجلسها، نحن حرصنا على أن نحيد النقابة عن أي معارك، ولم ندخل في صدامات سوى للمطالبة بحقوق أعضاء المهنة، كما أن النقابة ظلت لعقود تحت قيادة وجوه محسوبة على النظام القديم ولم يكن يعود ذلك بأي نفع على الأطباء”.
ومهما كانت إجابة السؤال المعلق حول الوضع إذا كان للنقابة مجلس ينال رضا الحكومة وفرصة للتعاون بينهما، فإن الوضع الحالي من اللاثقة على خلفية قضايا التسييس أفقد النقابة الكثير مما كان يمكن أن تفعله، وجعل استشارتها تطلق في الهواء دون أن تصيب الهدف.
تقف النقابة لتراقب ما يحدث في المستشفيات، ولا يبرز دورها في الوباء سوى كمصدر وحيد للإعلان عن أعداد الإصابات والوفيات بين الطواقم الطبية، بعد أن تحصيه بصورة ودية من الزملاء في مستشفيات العزل ومجهودات النقابات الفرعية، أما الوزارة التي تملك السجل الكامل ببيانات الإصابات فلا تشاركه مع النقابة. وقدمت النقابة مقترحا بضم الشهداء من الأطباء إلى صندوق رعاية أسر الشهداء الذي أسسته الحكومة منذ عامين لرعاية ضحايا العمليات الإرهابية من رجال الجيش والشرطة.
وينص قانون تأسيس الصندوق في بنده الأول على إمكانية إضافة الحكومة لآخرين، وتمت المطالبة بضم شهداء كورونا من الأطباء على اعتبار أنهم في ميدان معركة ويستحقون الدعم.
وتجاوز الأمر تجاهل طلب تعويض أسر هؤلاء إلى تجاهل آخر بإمداد النقابة بقاعدة البيانات الدقيقة عن المصابين والمرضى من الأطقم الطبية لصرف إعانات لتلك الأسر من صندوق اتحاد المهن الطبية بقيمة 20 ألف جنيه للمصاب و50 ألفا للشهيد (حوالي من 1150 إلى 3100 دولار)، وتوقع أن تصبح مصر ضمن الدول الأعلى في الإصابات بين الأطقم الطبية.
ورغم أن النقابة تفتقد لقوة التصعيد والفعل، إلا أنها مازالت تحاول أن تحتفظ بالكلمة، ربما تغيرت لهجتها كثيرا وفقدت بوصلتها، ورجل الشارع الذي بات يحفظ وجه وزيرة الصحة لا يتذكر وجه نقيب الأطباء حسين خيري المختفي في الأزمة، فإن صدى الكلمة إما أن يثبت حال أخفقت الوزارة في إدارة الأزمة أو يزول حال ثبت العكس وتمكنت من السيطرة على الجائحة.