من منا يفكر اليوم بـ"قضايا" إنسان ما قبل التاريخ؟ لكن فنه باق وتستمر قيمته. أضف إلى هذا الملايين من الأعمال الفنية التي مثلت قضايا عصرها وصولا إلى يومنا هذا.
لا أعرف إن كانت أزمة الوباء ستكون فرصة للفنانين. لست من الناس الذين حسموا أمرهم في العلاقة مع الفن وغاياته. لا أعرف إن كان على الفنان أن يكون هادفا وصاحب قضية، أم مجرد فنان يستمتع بما يقدمه للناس. ما أعرفه أن القضايا تذوي بمرور الزمن، لكن الفن عنيد ولديه قدرة صمود أسطورية على البقاء. الشاهد تلك اللوحات التي رسمها “فنان” العصر الحجري على جدران الكهوف. من منا يفكر اليوم بـ”قضايا” إنسان ما قبل التاريخ؟ لكن فنه باق وتستمر قيمته. أضف إلى هذا الملايين من الأعمال الفنية التي مثلت قضايا عصرها وصولا إلى يومنا هذا.
لكن ما أحسه أن الفنان، وخصوصا الفنان التشكيلي، من الضروري أن يلتقط اللحظة الراهنة ليعبر عنها. وما أعرفه أيضا أن هذه الالتقاطة يجب ألا تكون مبتذلة ودعائية. المبتذل هو النظير لفقدان القيمة. والفن بلا قيمة هو لا فن أصلا.
تأملت لوحة الفنان البريطاني المجهول بانكسي. لوحة تعبر عن أبطال اللحظة الراهنة. لو كانت هذه اللحظة بأيدي فنانين من العهد الشيوعي، لأظهروهم جنودا صناديد يدافعون عن البلد في وجه جائحة كورونا. هي نوع من الحرب تقف النساء والرجال من أطباء وممرضين ومعينين ومزودين وشركات أدوية وصناعات الأجهزة الطبية كخط الدفاع الوحيد في مواجهة كورونا. هم جنود هذه اللحظة. ولكن هل من الضروري أن نعبر عنهم بالمفهوم العسكري؟ كان رد بانكسي بسيطا: لا. الطفل لا يعرف البطولات في ساحات القتال للجيوش. الطفل اختار أبطاله من الدمى، والبطل لديه هو “الرجل الوطواط” و”الرجل العنكبوت”. هؤلاء أبطال الكوميكس وأفلام الرسوم المتحركة الذين يحاربون الشر بقوة تفوق المعدل البشري الطبيعي. ولطفل بانكسي الواعي باللحظة، وهو ليس طفلا بالمفهوم التقليدي بل تعبيرا عن سذاجة المجتمعات التي استكانت إلى البطولات البصرية الخارقة، يبدو أن الممرضة هي بطلة اللحظة. هذا احتفاء يليق بكل عامل في القطاع الصحي في كل ركن من العالم، ويليق أيضا باللحظة. هذا احتفاء بسيط بلا ابتذال. لوحة يهديها الفنان لرواق من أروقة مستشفى في جنوب إنجلترا.
لا أحد بمنأى عن أزمة الوباء (لوحة الفنانة البريطانية إيميلي هيرهوروك)
يتحفنا بانكسي بمشهد من حمام بيته بصور يضعها على حسابه على إنستغرام. هو فأر محاصر بالحجر والعزلة فما لديه من حيلة إلا أن يخرب ما حوله. مرة أخرى يذكرنا بانكسي بحالنا، كما تذكرنا الفنانة البريطانية إيميلي هيرهوروك بلوحتها عن الملكة إليزابيث في عيد ميلادها. لوحة للملكة ترتدي كمامة: لا أحد بمنأى عن أزمة الوباء.
هذه تخطيطات من فنون البوب التشكيلية تأخذ من رساميها القليل من الوقت لكنها تترك الأثر الكبير. ستمر الجائحة وننسى أيامها الكئيبة، لكن هذه اللوحات ستبقى على جدران كهوفنا العقلية ولوقت طويل قادم.