ردّة اقتصادية عن النظام الرأسمالي لاحتواء كورونا
منع تصدير الحاجات الأساسية يضع الاتفاقات التجارية في مهب ريح وباء فتاك.
by محمد حمادكشف انتشار فايروس كورونا عن تغير كبير في موازين القوى الدولية، وبرهن أن العالم أصبح بلا أقطاب بعد أن هز المرض دولا كبرى وفاقم خسائرها، وأثبت أن الرأسمالية العالمية قوة كبيرة لكنها هشة أمامه، حيث وجه هذا الوباء ضربة للرأسمالية، دفعتها للدخول في ردة اقتصادية، والعودة إلى اقتصاد المدار من خلال التحكم في عوامل الإنتاج، وتوجيه المنتجين نحو إنتاج سلع بعينها لمواجهة خطر كورونا، فهل ستكون للدول التي لها باع طويل في الاحتكام إلى النظام الرأسمالي القدرة على مواجهة هذه التحديات؟
دشن صندوق النقد الدولي مؤخرا منصة لمتابعة تداعيات تفشي فايروس كورونا على مستقبل الدول، ورصد أوضاعها الاقتصادية التي باتت عند مفترق طرق وتنذر بتحولات جيوسياسية بعد أن أثبتت الأزمة أن العالم أصبح بلا أقطاب حقيقيين.
وجاء تدشين المنصة بعد إعلان الصندوق أن العالم دخل رسميا حالة ركود أسوأ من تلك التي ضربت أركانه عام 2008، لأنها متعددة الأطراف وواسعة النطاق، فيما يقدر حجم خسائرها بنحو 10 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي العالمي.
وتكشف الأزمات المالية والتوترات العالمية أن دماء النظام الرأسمالي دائما مستباحة، وتتمادى الأنظمة الحاكمة في إزاحته من باب إعلاء القيم الوطنية على حرية حركة رأس المال وتدفق التجارة عابرة الحدود.
ودفع هول الأزمة دولة مثل الولايات المتحدة، منبع مدرسة شيكاغو وقلعة الرأسمالية، للتدخل وتوجيه السوق، عندما ألزم الرئيس الأميركي دونالد ترامب شركات السيارات ووجهها نحو إنتاج أجهزة التنفس الاصطناعي لإنقاذ مرضى فايروس كورونا بعد أن فاقت أعداد المصابين قدرات المستشفيات وعدد أجهزة التنفس المتاحة.
وعلى نفس الدرب سارت فرنسا ووجهت شركات “بي.إس.إيه” التي تنتج سيارات بيجو وستروين وأوبل، إلى جانب شركة “شنيدر إلكتريك” لإنتاج الأجهزة الطبية لإنعاش المرضى.
أمام جائحة كورونا، سقطت الكثير من مبادئ الرأسمالية التي تضمن حقوق الملكية الفكرية، فيما أعلنت شركة “ميدترونك” التي تعد أشهر مُصنع لأجهزة التنفس الاصطناعي عن إسقاط حقوق الملكية الفكرية الخاصة بالأجهزة التي تملكها، ومشاركة كل التصميمات مع الدول للبدء في تصنيعها فورا.
ولم يتوقف نزيف الرأسمالية التي توصف في معظم أحوالها أنها متوحشة عند هذا الحد حيث هرعت غالبية الدول المعروفة بأنها قلاع في مجال الرأسمالية بغلق حدودها وقطع الطريق على مبادئ حرية التجارة لسد فجوات السوق المحلية وتلبية احتياجات الشعوب أولا.
فرضت تجليات ما يوصف بـ”القوة القاهرة” نفسها على طبيعة التعاقدات التجارية بين الشركات والدول، عقب فرض قيود على التصدير، وعدم وفاء الشركات بالتزاماتها في الأسواق الخارجية، خاصة صادرات السلع الغذائية والأجهزة والمستلزمات الطبية.
القوة القاهرة
باتت الشركات في وضع حرج، لأن هناك عقودا لا تنص بنودها على “القوة القاهرة” المتعلقة بالأوبئة أو الكوارث الطبيعية، لكن تفاقم الأزمة والإجراءات المماثلة في عدد من دول العالم قد تسد الثغرات أمام طرفي التعاقد وتقطع الطريق أمام فرص اللجوء إلى المحاكم التجارية دوليا، حتى بعد السيطرة على الأزمة.
وانتقلت الردة الاقتصادية على النظام الرأسمالي إلى مرحلة أكثر خطورة، وأعادت إلى الأذهان فكر ما يسمى بـ”قٌطاع الطرق”، وقرصنة البضائع التجارية، مثل المناوشات الدائرة بين بعض الدول حول شحنات الأقنعة والمعدات الطبية القادمة من الصين ولجأ البعض لقنصها.
حدث هذا السيناريو مثلا من جانب النظام الحاكم في تركيا الذي استولى على شحنة أجهزة تنفس اصطناعي صينية كانت في طريقها إلى إسبانيا، وبات هذا الوضع محل تكرار من جانب عدد من الدول بدعوى التشريعات الطارئة التي تمنع تصدير الأجهزة والمستلزمات الطبية من على أراضيها.
الردّة الاقتصادية على النظام الرأسمالي انتقلت إلى مرحلة أكثر خطورة، وأعادت إلى الأذهان فكر ما يسمى بـ"قُطّاع الطرق" وقرصنة البضائع التجارية
وأصبحت الكمامات مغنما كبيرا في تلك الأزمة وبضاعة مغرية، نتيجة تصاعد الطلب العالمي عليها كإحدى وسائل الوقاية في ظل تفشي جائحة كوفيد - 19 .
ولم يتوقع كثيرون حتى أسابيع ماضية أن الرأسمالية تنتظرها صفعة جديدة، وستسيل دماؤها على طريق تفشي وباء كورونا، بعد أن خرج الأمر عن السيطرة وجاب أرجاء العالم شرقا وغربا، شمالا وجنوبا، وهو ما يجعل النظام الرأسمالي على المحك.
ونسي العالم مع التطور العلمي والتكنولوجي عهود وسلاسل الأوبئة التي ضربته على مدى قرون وذهب ضحيتها الملايين من البشر، بدءا من الطاعون بأشكاله المتعددة والحمى الصفراء والأنفلونزا بأنواعها والإيدز ومؤخرا الإيبولا.
وأعادت أزمة كوفيد - 19 فتح ملف العلم الكئيب للنظرية “المالتسية” التي أرقت توس مالتس حول توازن الموارد الطبيعية التي تحتاج إلى تدخلات تدفعها للتوازن، فالموارد تمضي في متوالية حسابية بطيئة لا تقوى على مواجهة الزيادة السكانية التي تسير بمتوالية هندسية سريعة.
ودبت آفاق السلام في أرجاء العالم، إلا من مناوشات وحروب محدودة على نطاق جغرافي ومناطق لم تعد أكثر تأثيرا لدفع هذا التوازن، فيما يعد كوفيد - 19 الفتاك أكثر عنفا وقوة تبعث نظرية التوازن “المالتسية” من جديد.
لم تضع المؤسسات المالية الكبيرة في حسبانها مخاطر الأوبئة، وكانت تضعها في مراتب متأخرة من باب الحصر فقط، خاصة مؤسسات التأمين العالمية، لأنها لا تحصي الأخطار بل تقدر قيمة التأمين ضدها وسبل وحجم التعويضات.
سحب البساط من الغرب
كشفت توقعات مجموعة “أكسا” العالمية للتأمين للعام 2020 أن مخاطر الأوبئة تأتي في المرتبة الثامنة، وكانت هذه التوقعات قبل ظهور وباء كورونا بأسابيع، بينما دفعتها مؤشرات المنتدى الاقتصادي العالمي للمرتبة العاشرة، ما يعكس عدم الاكتراث بعودة مخاطر الأوبئة.
وحذر أنطونيو غوتيريش الأمين العام لمنظمة الأمم المتحدة من تداعيات المحنة الحالية على المجتمعات، والتي تنذر بتحولات وخيمة طويلة الأجل على الاقتصاد العالمي، ووصف كوفيد - 19 بأنه أعظم اختبار منذ تشكيل الأمم المتحدة، فهذه الأزمة الإنسانية تتطلب اتخاذ إجراءات سياسية شاملة ومبتكرة وحاسمة وذات نسق عال، إلى جانب حدود قصوى من الدعم المالي والتقني لمساعدة الناس والبلدان الأكثر فقرا وضعفا.
ودعا تقرير المسؤولية المشتركة والتضامن العالمي، استجابة للتأثيرات الاجتماعية والاقتصادية كوفيد - 19 الذي أصدرته المنظمة جميع دول العالم للاصطفاف معا في مواجهة الوباء.
ويلفت محمود محيي الدين، الخبير الاقتصادي المصري ونائب رئيس البنك الدولي السابق، إلى أن هناك عالما جديدا يتجه نحو الشرق، قبل الأزمة الحالية، وازداد هذا الاتجاه بعدها، والشرق هنا لا يعني فقط الصين، لكنه نسق يؤدي إلى سحب البساط من الغرب ويزيد قلقه.
وأضاف ردا على سؤال لـ”العرب” خلال محاضرة بجامعة النيل حول مواجهة العاصفة الكاملة، اقتصاد العالم ما بعد كورونا، عبر تقنية “زوم” من واشنطن، أن “هناك اختلافا تاما في شكل العولمة، وسوف يشهد العالم نوعا من فك الارتباط بشكل أكبر عما كان قبل الجائحة، والبدء في توطين الصناعات داخل الدول، كما أن الشكل الجديد للعالم سيخلو من المسميات التقليدية لدول العالم الأول والثاني والثالث”.
وأوضح أن العالم يمر الآن بمرحلة فراغ، لا يقاد من أي جهة، ولا يمكن لأي دولة أو مجموعة السيطرة وإحكام الأمور نتيجة الوضع المركب للأزمة الحالية، فالنظام العالمي يشهد أزمات صحية وركودا في الاقتصاد العالمي وتفاقما للديون وأزمة مالية ومشكلات تتعلق بأسواق السلع الغذائية والنفط.
أصبحت الكمامات مغنما كبيرا في تلك الأزمة وبضاعة مغرية، نتيجة تصاعد الطلب العالمي عليها كإحدى وسائل الوقاية في ظل تفشي جائحة كوفيد - 19
وما يجب أن يتعلمه العالم من دروس الأزمة، هو ضرورة بناء نظام صحي قوي وتأمين طبي شامل، حيث أمعنت الدول الكبرى في الاهتمام بالصحة العلاجية على حساب الصحة الوقائية، ما يحتاج إلى نظام مختلف يأخذ حقه من الإنفاق ضمن إطار شامل.
ولم يكن الوضع التعيس للنمو الاقتصادي مستغربا للخبراء، لأنه لم يكن جيدا قبل الأزمة بسبب تراجع حركة التجارة، خاصة مع الحرب التجارية العالمية بين واشنطن وبكين، والتي أثرت سلبا بشكل كبير على معدل النمو العالمي.
وتسبب ذلك في تردي الوضع الاقتصادي العالمي وأصابه بهشاشة كبيرة، وكان متوقعا أن أي صدمة ستدفعه نحو الركود، لكن الجميع لم يستطع التنبؤ بماهية الصدمة وطبيعتها.
ورغم راديكالية المواقف على المستوى العالمي من أجل البقاء ومواجهة الوباء، إلا أنه على الدول المتقدمة مساعدة الفقيرة والأقل تطورا، وإلا فإن عليها مواجهة كابوس المرض القادر على عبور الحدود، فضلا عن مناوراته وقدرته على الظهور مجددا في المناطق التي تم إعلان خلوها منه.
وفي سبيل معالجة الأبعاد الاجتماعية والاقتصادية المدمرة للأزمة لا بد من التركيز على الفئات الأكثر ضعفا من خلال تصميم سياسات تدعم توفير التأمين الصحي والتأمين ضد البطالة والحماية الاجتماعية للكيانات الاقتصادية لمنع حالات الإفلاس وفقدان الوظائف.
وتحشد الأمم المتحدة جهودها لإنشاء صندوق استئماني جديد متعدد الشركاء للاستجابة للطوارئ والتعافي من الصدمة الاجتماعية والاقتصادية لكـوفيد-19، من أجل التضامن في مواجهة الجائحة.
دفعت الأزمة الكثير من الجهات إلى وضع سيناريوهات علمية لما يمكن أن تصل إليه تداعيات انتشار هذا الوباء بالنسبة للعديد من القطاعات الحيوية، وبدا كأن هناك سباقا محموما حول تحديد التقديرات والآثار المتوقعة، ولذلك فإلقاء نظرة على بعضها يمكن أن يكشف إلى أين يسير النظام الرأسمالي.
وقدرت منظمة العمل الدولية حجم الوظائف التي سيفقدها العالم بأنها تصل لنحو 25 مليون وظيفة، وهي مرشحة للارتفاع بسبب استمرار حالة الركود.
وتوقع مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية “الأونكتاد” ضغطا تنازليا بنسبة 30 في المئة إلى 40 في المئة على تدفقات الاستثمار الأجنبي المباشر العالمية.
وفي غضون ذلك، توقع الاتحاد الدولي للاتصالات أن ينقطع 3.6 مليار شخص عن الإنترنت، وتتوقع منظمة اليونسكو أن يتسرب 1.5 مليار طالب من المدارس.
ورصد معهد التمويل الدولي إمكانية أن ينال نزيف الخسائر من اقتصادات دول منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا خلال عام كوفيد - 19 أو 2020 سابقا، بسبب تداعيات تفشي الوباء، فضلا عن الهبوط الحاد الذي تشهده أسعار النفط على المستوى العالمي.
قدر المعهد العجز المبدئي في الحساب الجاري لدول المنطقة بنحو 92 مليار دولار في 2020، مع اتساع العجز المالي من 3.7 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي في 2019 إلى 8.8 في المئة في 2020، مقارنة بفائض قدره 28 مليار دولار في 2019.
وأمام سيل التوقعات المتشائمة تستباح دماء النظام الرأسمالي الذي يحتاج دائما إلى منقذ من خلال قرارات تنفذها الحكومات، مثلما قام به جون مينارد كينز من إجراءات لمواجهة أزمة الكساد العظيم التي انطلقت شرارتها عام 1929.
وقال مدحت نافع، خبير إدارة التمويل والاستثمار، لـ”العرب”، إن الأزمة المالية العالمية عام 2008 دفعت الدول الكبرى إلى إنقاذ المؤسسات من خلال تأميمها، بالتالي فإن الظروف الحالية تحتاج إلى قرارات استثنائية، وبعد زوال الاستثناء تطل الرأسمالية مجددا.
وسط تلك المناوشات تلوح في الأفق مخاوف اندلاع أزمة غذاء بسبب تبني الدول إجراءات احترازية من أجل بناء مخزون استراتيجي لديها يفوق المستويات في الأحوال العادية خشية من طول أمد المعركة لتأمين طعام مواطنيها.
ويتطلب ذلك ضمان فتح قنوات خضراء تسمح بانسياب حركة تداول السلع الغذائية بمعدلات تسمح بتأمين احتياجات الأفراد في مختلف الدول، وعدم غلق قنوات تصدير الغذاء كليا، فتفاقم الأزمة
وتوحش كورونا في أي بؤرة من العالم لن يرحما أحدا وإن كان في أقصى الأرض، وفي ظل المتغيرات الراهنة على الرأسمالية أن تجدد نفسها قبل أن تتآكل أعمدتها الرئيسية، فقد كشف كورونا حجم الخلل الذي ينخر بنيانها الاقتصادي.