ابن تيمية.. سؤال لماذا هُزمنا وكيف نستعيد النصر المفقود
فقيه أصولي زوّد جماعات الإرهاب والتكفير بكل ذخيرتها الفكرية.
by هشام النجاراستحضار اسم الفقيه الأصولي أحمد ابن تيمية في المسلسل المصري “الاختيار” كمرجعية للسلفية الجهادية في أحد المشاهد التي يستدل بها أحد التكفيريين بأقواله، قوبل بجدل واسع بين الجمهور المصري الذي صدمته مشاهد لاحقة تدافع عنه وتبرئه من المسؤولية عن نشر الأفكار المتطرفة.
يرجع حرص صناع المسلسل الذي يناقش قضايا الإرهاب ومغذياته الفكرية على الإشارة إلى ابن تيمية للدور المحوري الذي لعبه داخل مرجعيات السلفية الجهادية، والإسهام من خلال منظرين معاصرين في تأسيس وبلورة الصيغة النهائية للفكر الذي تعمل به جماعات الإرهاب الديني، مثل الإخوان وداعش والقاعدة والنصرة وبوكو حرام والشباب الصومالية وغيرها.
يبدو استدعاء ابن تيمية من خلال مشاهد عابرة يدافع في أحدها شيخ أزهري عنه ويصفه بـ”الإمام المجاهد” في مسلسل يتابعه الملايين، مغامرة غير محسوبة قد تترك آثارا سلبية على جهود تجفيف روافد الفكر المتطرف. ذلك لأن ابن تيمية الحراني، ليس مجرد رجل وُلد في القرن السابع الهجري (الثاني عشر الميلادي) اندثرت سيرته أو خف أثره، بل صار من واقع استشهادات منظري كل جماعات العنف التكفيري بفتاواه مرجعية رئيسية لهذا الفكر الذي تم استدعاؤه قصدا في سياقات مريبة كمشروع أُريد به كبح المسار التنويري.
الدفاع عن ابن تيمية عبر حوار سطحي غير معمق من شأنه إلحاق الضرر بجهود التجديد التي تحتاج لمعالجات أكثر عمقا وتفصيلا لحقائق تاريخية غائبة تخص تاريخ العرب والدولة المصرية وتاريخ الإسلام عموما.
يحتاج الجمهور العربي للتعرف على وجه آخر مُغيّب من مفكري وفلاسفة التراث الإسلامي لا غنى عن إبرازهم ونشر إنتاجهم النهضوي كنقيض لتيار الانحطاط والرجعية، ما يعني أن الطرح الموضوعي الجاد يتحقق بإظهار نقاط التجديد والقوة والازدهار مقابل جوانب الضعف وعوامل الجمود بالتراث الديني الإسلامي.
ابن تيمية ليس هو النموذج المثالي لتقديمه من أجل معركة الوعي والنهضة على مستوى الدين والدولة، فهذه مهمة معقدة لا ينهض بها مفكر مهما كانت درجة ذكائه وسعة أطروحاته يعتمد على معارف نظرية مجردة، شأنه شأن أحد أقطاب السلفية المعاصرين من ذوي القدرة على التلقين والحفظ وعرض المسائل واسترجاع النصوص والشواهد وإبهار السامعين بقوة الفصاحة.
استحضار ماضوي
ابن تيمية صاحب مشروع أسهم بشكل رئيسي في تحويل الإسلام إلى أيديولوجيا أغرقت الدين في أتون السياسة
جرى استنساخ نموذج ابن تيمية كثيرا وضجت بأمثاله الفضائيات العربية تجسيدا للمنظر الفكري الأقرب للأسطورة في وفرة المؤلفات ولعقلية الداعية صاحب الرؤية التي لا ينبغي نقدها فيما يجب على الأمة عمله لاستعادة أمجادها.
ظهرت الكثير من نسخ ابن تيمية خلال هذا القرن والذي سبقه، عبر دعاة وقادة جماعات برعوا في الجدل، وشديدي الحماسة مشبوبي العاطفة وسريعي الانفعال، مؤمنين بمبادئهم إلى حد اليقين، فما أسهموا بإبداع يُعتدّ به في مسيرة نهضة العرب والمسلمين، كشأن ابن تيمية في عصره خاصة وأن معاصريه اتهموه بالزندقة بعد انتهاء دوره الإيجابي في المعركة ضد التتار.
لم تكن المشكلة في ابن تيمية كشخص وفقيه أصولي تكرر كثيرا في الماضي والحاضر المعاصر، إنما في من يوظف هذه النماذج ويعتني بإحيائها ويسعى في أن تكون مرجعية عامة للأمة، وهو يدرك جيدا مآلات هذا الإحياء من تكريس للجمود الفكري وللنزاعات الأيديولوجية والطائفية عبر حالة تم استخدامها في زمانها واستدعاؤها الآن لنفس الهدف، وهو محاولة فرض عقيدة سياسية النشأة والغاية، وتعميم مذهب فقهي يمثل أقلية الأقلية بين المسلمين منذ ظهوره.
وقع مسلسل “الاختيار” على ابن تيمية بعناية لافتة، فقد كان صوته حاضرا أكثر من أي رجل دين آخر في المشهدين السياسي والعسكري، وصاغ خطابا دينيا أقنع به أهل عصره للتعامل مع غزو التتار المسلمين، وهي الصياغات الفقهية التي خدمت مدارس السلفية الجهادية المعاصرة عبر استدعائها منسوبة لرجل مشهور بالجهاد والنضال بغرض توظيفها ضد الحكام المعاصرين بشكل يظهرهم أمام أتباعهم كما لو كانوا يصدحون بخطاب ابن تيمية المقاوم ضد المعتدي والطاغوت، حتى لو كان مسلما. جرى استغلال جانب شخصية ابن تيمية كرجل دبلوماسية وسياسة وحرب شارك في المقاومة الشامية وفي صفوف الجيش المصري في معركة شقحب (مرج الصُفر) في رمضان 702 هجرية (أبريل 1303م) ضد التتار وحلفائهم من الطوائف الإسلامية والديانات الأخرى، بغرض تمرير الاتجاه السلفي المنغلق الذي تبناه.
حاول رعاة هذا التيار تحصين المنظومة الفكرية والفقهية التي فرخت العنف والإرهاب عبر العصور دون أن يمسسها تجديد أو يطال أصولها وقواعدها أي تطوير عبر نسبتها لرجل جاهد وقاوم الأعداء على الساحتين الشامية والمصرية، وكان بمثابة الجهاز الإعلامي الذي شحذ مشاعر جيش المسلمين القادم من القاهرة.
بين مصر والشام
يعود الأمر لحالة نشطت بين الشام ومصر، وهي المجال الذي أُريد فيه تعميم الإسلام السياسي حديثا كانعكاس للأفكار السلفية المتحجرة قديما، وكانت مشاركة ابن تيمية في الجيش المصري والسوري ضد التتار وحلفائهم هي وسيلة للاختراق بالفكر النقلي الأصولي، بالنظر لتململ شعوب هذه المناطق من الخطاب المتشدد، وميل المجتمعين المصري والشامي للتوجه الصوفي ونفورهما من الأفكار السلفية التي تنسب بعض أصولها للإمام أحمد بن حنبل.
قصة توظيف الفقيه الأصولي ابن تيمية أوسع من مجرد استدعاء فتاواه لدعم مواقف التشدد والعنف التي تتبناها الجماعات التكفيرية وجماعات الإسلام السياسي على امتداد خارطة العنف العالمي، فهي تشمل استغلال رمزيته في خلق شرعية لتيار فكري يحدد برنامج الأمة الحاضر عبر العودة إلى التراث بمفهومه الديني الضيق كمعيار أساسي لتقييم الحاضر والتطلع إلى المستقبل، ولا يختلف قديم هذا الاتجاه عن جديده، فكلاهما يجعل من المستقبل صورة ذهنية للماضي المتخيل. الاختيارات المتشددة في التنظير والممارسة وراءها مدرسة فكرية تحمل مشروعا يُراد تطبيقه لأغراض ربما لا تعيها التنظيمات المتطرفة التي بالكاد ترى موقعها من السلطة، حيث تتوخى هذه المدرسة تكريس إسلام واحد لا يتأثر بحركة التاريخ ولا باختلاف المجتمعات.
العنوان الطافي لشخصية الفقيه ابن تيمية هو استغلال أحد العقول الإسلامية الطموحة المتقدة ذكاء وحماسة وأكثرها غزارة في التأليف من بوابة جوانبه الإيجابية وحميّته وغيرته على الأمة مشاركا في الدفاع عنها وجهاد أعدائها، ما يخلق شرعية مزيفة لفتاوى العنف والكراهية والجهاد المسلط على رقاب المسلمين بأيدي جماعات تعاني تهافت حججها ومواقفها السياسية والفكرية إثر رفض جموع فقهاء المسلمين قديما وحديثا لأطروحاتها وأفكارها.
مشروع تيار الإسلام السياسي الطموح انطلق من رحم هزيمة 1967 في سياق خديعة إسلاموية كبرى استمرت لعقود
ترتبط التفاصيل والمضامين الغاطسة بالمشروع المراد للأمة أن تتبناه وهو الجانب الأهم والأخطر، ما يتضح من السياق المضاد بالتراث الإسلامي الذي جرى تعمد تغييبه وهو نموذج المصلحين النقديين الذين تنوعت مدارسهم الدينية والفكرية والفلسفية.مقابل الدفع باتجاه سلفي أصولي متشدد يركز على فرض العقائد بقوة السلطة واختبار عقائد الناس والحكم على ضمائرهم ومؤديا للفرقة والتحزب والتمزق الطائفي مقرونا باسم ابن تيمية، جرى حجب وتهميش مدارس فكرية وفلسفية في التراث الإسلامي تمزج بين النص والعقل رغم ثرائها الحضاري الإنساني بآراء سياسية وفلسفية وأبحاث علمية حول الكون والبشر في شتى التخصصات.
عكس تصعيد اسم ابن تيمية والإلحاح على تصدره المشهد الفكري الرغبة في رواج مشروع إقصائي ممزق لوحدة الأمة يشرع لمفاهيم الفرقة الناجية ودار الحرب ودار الإسلام وتكفير المخالف.
بدد الرجل طاقات الأمة عبر إدخالها صراعات مدمرة للدول والمجتمعات، ولاغيا فاعلية الإنسان وقوانين الطبيعة عبر رد الظواهر إلى مبدأ واحد تستلهمه الآلاف من العقول الاتباعية والاتكالية من حاكمية إلهية سالبة.
أدى التركيز على اسم وإنتاج ابن تيمية إلى غض الطرف عن تراث تيارات فكرية وعلماء ومفكرين وفلاسفة كان لهم الدور الأكبر في بناء الحضارة العربية والإسلامية وبزوغ نجمها عالميا.
ما يعني أن الاختزال والانتقائية بغرض التمكين لمدرسة واحدة من مدارس التراث كانا مقصودين لاستبعاد مدارس أخرى أنتجت من خلال فلاسفة ومفكرين وعلماء مسلمين كبار أسسوا قواعد يمكن أن تُبنى عليها نهضة الأمة.
انطلق مشروع تيار الإسلام السياسي الطموح من رحم هزيمة 1967 في سياق خديعة إسلاموية كبرى استمرت لعقود اكتسح بفضلها هذا التيار الساحة واصلا لما عليه الآن من انتشار وتمدد، عندما عزى الهزيمة للبعد عن الدين.
لجأ ابن تيمية إلى الحيلة ذاتها قبل قرون مستغلا سقوط بغداد على يد التتار عام 1258م، ومؤسسا لنفسه مشروعا عبر تربية جيل تزلزل وجدانه بسبب الهزيمة المدوية، قبل أن يجد الإجابة على سؤال لماذا هُزمنا لدى رجل يقول إن ما يعتنقه الناس ليس هو صحيح الإسلام ويزعم أنه يملك مفاتيح الحق دون غيره.
ترتب على هذا الجواب حل كارثي في زمن ابن تيمية وفي زماننا، وكي يثبت الرجل أنه يمتلك المشروع الذي لم يسبقه به غيره ليكون نقطة البداية لاستعادة النصر المفقود اختار البدء بتمحيص عقيدة المسلمين ليستحقوا نصر الله.
أفكار وبنادق
توسع ابن تيمية في تكفير المخالفين في تفاصيل العقيدة، مُطورا منهج أبوالفرج الشيرازي الذي كان أول من دشن طريقة يمتحن فيها عقائد الناس، موثقا أسلوبه الغريب في كتاب عنوانه “جزء فيه امتحان السني من البدعي”.
لم تختلف ردة الفعل العاطفية على سقوط حاضرة الخلافة وبدء خفوت بريق الأمة وتتابع هجمات المغول قديما عن ردة فعل جماعات الإسلام السياسي بعد سقوط السلطنة العثمانية وهزيمة يونيو 1976، حيث أضاع هذا التيار على العرب والمسلمين فرص توظيف مدارس فكرية عقلانية، كان من الممكن لها أن تسهم في تغيير زاوية الفهم للدين والواقع، وأن تسهم في بناء نهضة إسلامية حقيقية.
التوسع في التكفير والإقصاء شمل غالبية مفكري وفلاسفة النهضة حديثا، وجرى تجاوز إنتاج رموز الإصلاح الديني، وفي مقدمتهم الإمام محمد عبده مقابل التمكين لمدارس سلفية أصولية.
شمل التكفير في الماضي بفضل آراء ابن تيمية الإقصائية علماء مثل الطبيب ابن سينا والكندي وابن رشد والرازي والبيروني وجابر ابن حيان والفارابي وابن النفيس والخوارزمي، وابن الهيثم والسهروردي.
رفض ابن تيمية جميع العلوم العقلية باعتبارها اتجاهات خطرة على الفكر والعقيدة، فالعلم الحقيقي في نظره هو العلم الشرعي فقط وما عداه ليس له نفع يعود على الدين وأهله، متهما فلاسفة ومفكري النهضة بأنهم أفسدوا على الناس عقولهم وأديانهم، وهم في نظره إما زنادقة أو ملاحدة أو مبتدعة تطعن آراؤهم في الإسلام، ما حرم المسلمين من منجزاتهم العلمية والفكرية.
الفقيه الأصولي ابن تيمية ليس مجرد مفكر غذت تنظيراته مسارات التكفير والعنف المسلح ليسهل على البعض تبرئة تراثه بحجة سوء فهم التكفيريين لفتاواه وكتبه، لكنه صاحب مشروع أسهم بشكل رئيسي في تحويل الإسلام إلى أيديولوجيا أغرقت الدين في أتون السياسة وحولت رسالته الأخلاقية إلى سلطة دنيوية تغلب عليها الاستبداد والهيمنة.
وأوجد بديلا للنهضة العلمية عبر دراسة العلوم الشرعية التي من خلالها تتحقق الفتوحات الإسلامية، فالحضارة الإسلامية لا تقاس بعمران الدنيا ولا بعلومها بل بنشر الدين الإسلامي في البلاد المفتوحة، ولذلك يرفض الحرية الدينية إذ لا يجوز للأديان أن تكون فكرا فهي وحي من الله، مكفرا كل من يعتقد بأنه حر في ما يؤمن به أو يدين به.
أكد الحافظ الفقيه تقي الدين السبكي أن ابن تيمية جاء ببدع لم تأت بها أي من الملل والنحل ولا الطوائف الإسلامية، وقال في كتابه “الدرة المضية في الرد على ابن تيمية”، “أحدث ابن تيمية ما أحدث في أصول العقائد ونقض دعائم الإسلام والأركان بعد أن كان مستترا بتبعية الكتاب والسنة، مظهرا أنه داع إلى الحق هاد على الجنة فخرج من الاتباع إلى الابتداع”.
فصل ابن تيمية بين مشروعين للأمة الإسلامية، أحدهما فرض على رموزه قيودا شديدة ولاحقهم بالتكفير واستحل دماءهم ونزع عنهم صفة انتمائهم لهذا الدين، رغم أنهم هم من أسسوا قواعد العلوم النظرية والطبيعية في الحضارة الإسلامية وكان لإبداعاتهم دور في نهوض الحضارة الإسلامية والحضارات الأخرى. في مقابل مشروع الإسلام السياسي الذي كان له الفضل في وضع لبناته الأولى مؤصلا لتكفير المخالف ومستحلا دماء المفكرين والفلاسفة على مجرد الشبهة وتبنى سردياته التي تدعي امتلاك الحقيقة المطلقة للدين والدنيا على احتكار الإسلام ونسبته لجماعة دينية أو مؤسسة رسمية أو حقبة تاريخية.
ضيق مشروع ابن تيمية الفكري الذي يفيض بتكفير الناس والعداء للمجتمعات خيارات أبناء الحضارة الإسلامية وكرس الجمود والانحطاط الحضاري وقتل الإبداع والتجديد وجلب التشدد والنزاع على السلطة وأنشأ المذهبية والطائفية.
أسوأ آثار مناهج ابن تيمية التكفيرية علاوة على إمداد التكفير الديني والعنف الميليشياوي بذخيرته الفقهية، حجب تراث المسلمين النهضوي الذي سبب نهضة أوروبا، وهو تراث الحكمة والفلسفة والفكر والعلوم والقيم والفنون.