قراءات الطفولة وذاكرتها: الفراغ الأبيض
by أحلام بشاراتكلما كبر القارئ صار حجم كتابه أصغر، وسرعان ما تختفي منه الصور الملونة والكبيرة، ولن تكون هذه متاحة إلا في كتب الفن باهظة الثمن، لكن حياة الصور مستمرة في أدب الطفل إلى يومنا، كما تواصل حياة الكتب التي قرأناها صغاراً العيش في ذاكرتنا.
منذ أيام وضع أحد الكتّاب رابطاً على حسابه في فيسبوك لتحميل "قصص المكتبة الخضراء"، وبدا كأن الآخرين عثروا على قطعة من حياة سابقة؛ وأن لكل واحد قصة مفضلة من هذه السلسلة، ولا بد أن لكل واحد قصة ما عن كتاب تعثّر به في سنوات القراءة الأولى، أو أُهدي إليه، أو ربما لا يزال حاضراً في ذاكرته.
رغم ذلك تردد كثير ممن سألتهم "العربي الجديد" من كتّاب وفنانين في الإجابة عن سؤال: ما هو الكتاب الذي أثّر فيك طفلاً، وما زال حاضراً في ذاكرتك؟ بعض من سألنا لم يجب أصلاً، وبدا أن السؤال أصعب من ما توقعناه.
(نوال العلي - العربي الجديد)
لقد بدأت قارئة جرائد متحمسة، أقرأها سريعاً، حتى لا تبطئني عن العمل فيلاحظ والدي ذلك، وأنا أشرّحها إلى أنصاف، وأثبتها في صناديق الخضر على الجانبين، ثم أطويها فتطوى أخبار في الداخل، وتظهر أخبار أخرى على السطح، كنت أختار بعناية وسرعة الخبر الذي أريد له أن يظهر على السطح. كان الفراغ الأبيض الخالي من الكتابة، الذي كان مؤّشراً دقيقا للقطع، يأخذ حيزاً من اهتمامي بنسبة متساوية مع المساحات المكتوبة والمصورة، كانت يدي مثل السكين، تشق الجريدة، دون أن تقطع خبراً واحداً، أو جسداً واحداً.
بهذه الطريقة تابعت الأخبار الفنية وقرأت قصصاً متفرقة لم تعلّم في رأسي، لكن صور المدويلز ألهمتني فقلدتها، مازلت أحتفظ برسومات لأزياء رسمتها في الصف الرابع، وضمنت بعضها كتاب: شجرة البونسيانا، وهو كتاب مذكرات عن طفولتي حتى سن الثانية عشرة.
استمررت بهذه الحماسة للجرائد التي كانت فعلاً قرائياً عفويا من سن السابعة وحتى الخامسة عشرة، لاحقاً، في سنوات الجامعة، بعد أن صعدت من الحقول إلى مدينة نابلس، وعندما وقعت الصحف في يديّ بعيداً عن صناديق الخضر، فقدت حماستي تجاهها، وتحولت نحو الصوت، صوت بائع الجرائد الشهير العم أبو خليل السنونو، أقدم بائع جرائد في مدينة نابلس. لقد وجدت شبهاً خفياً بيني وبين العم أبو خليل، بائع الجرائد الأعمى الذي ينادي على الأخبار بصوته الهادر، فلا أعرف من أين يخرج صوته، وفي الأعلى عينان منطفئتان تحميان هذا الصوت، وعصا في يده تتأرجح فوق الأرض وتدله على طرق المدينة وتدكها.
في الصف العاشر تعرفت، في مكتبة المدرسة، على طه حسين ومكسيم غوركي، كان كتاباهما "الأيام" و"الأم" أول كتابين حقيقيين بعد أحد كتب كارل ماركس الذي وقع بين يدي خفية عن أخي جمال رحمه الله، ودفعني الخواء الذي يلف عالمي الفقير للاعتقاد بأنه كتاب تستطيع أن تقرأه طفلة في الصف السادس، كنا ذاهبين في السنة التالية، وأنا في الصف السادس، نحو الانتفاضة الأولى، لكن كارل ماركس لم يذهب معي، لقد دفنته، تحت التراب، أنا وأختي بيوتوفول" الاسم الكنية الذي اخترته لأختي الكبيرة جميلة في: شجرة البونسيانا" تحت شجرة العُلّيق، مع مجلات البيادر السياسي، وكتب ومجلات أخرى، بعد أن لففناها بعناية في أكياس بلاستيك، حتى نحمي جمال من الاعتقال. في ذلك الوقت كانت القراءة إحدى التهم التي يتعلل بها الاحتلال الإسرائيلي لاعتقال الفلسطينيين.
حكايات الزير سالم، وباطية من هان لقباطية، والوشّاح مسلّم، والطير الأخضر الذي يمشي ويتمختر، حكايات منحت طفولتي الفرح الحقيقي، ونوم أمي المتلاحق من تعب أعمال الزراعة، وهي تحكي الحكايات، أعطاني فرصاً ذهبية متكررة لصمت الراوي، كان نوم أمي مقطعاً مهماً في أي حكاية، كان جزءاً من الحكاية مثل الفراغ الأبيض في الجريدة، وكان صوت أبي وهو يقول لي أنا ابنة الخمس سنوات: وهاي خرافيتي وطار عجاجها وعليك أن تردي نعاجها، إشعاراً بإطلاق حريتي في عالم الخيال. لقد منحني هذان العجوزان اللذان أحب أن أعتبرهما جديّ طفولة سعيدة بهذه الحكايات، رمتني، منذ القصص، التي أولها كذب وآخرها كذب، على طريق الكتابة.
* كاتبة من فلسطين