قراءات الطفولة وذاكرتها: الكاتب بطلاً تلفزيونياً
by ياسر عبد اللطيفكلما كبر القارئ صار حجم كتابه أصغر، وسرعان ما تختفي منه الصور الملونة والكبيرة، ولن تكون هذه متاحة إلا في كتب الفن باهظة الثمن، لكن حياة الصور مستمرة في أدب الطفل إلى يومنا، كما تواصل حياة الكتب التي قرأناها صغاراً العيش في ذاكرتنا.
منذ أيام وضع أحد الكتّاب رابطاً على حسابه في فيسبوك لتحميل "قصص المكتبة الخضراء"، وبدا كأن الآخرين عثروا على قطعة من حياة سابقة؛ وأن لكل واحد قصة مفضلة من هذه السلسلة، ولا بد أن لكل واحد قصة ما عن كتاب تعثّر به في سنوات القراءة الأولى، أو أُهدي إليه، أو ربما لا يزال حاضراً في ذاكرته.
رغم ذلك تردد كثير ممن سألتهم "العربي الجديد" من كتّاب وفنانين في الإجابة عن سؤال: ما هو الكتاب الذي أثّر فيك طفلاً، وما زال حاضراً في ذاكرتك؟ بعض من سألنا لم يجب أصلاً، وبدا أن السؤال أصعب من ما توقعناه.
(نوال العلي - العربي الجديد)
لن أحكي عن كتاب، ولكن عن مسلسلات تلفزيونية فارقة رأيتها في طفولتي وتحديدًا حين كنت في العاشرة في موسم 1979-1980، وشكلت تلك المشاهدات بشكل غير واع اختياراتي في الكتابة، وربما في الحياة بشكل عام فيما آتي من سنين. في حصة الثامنة مساءً فاجأتنا القناة الأولى في التلفزيون المصري بعرض مسلسل بطولة ممثل شاب أسمر يتبوأ البطولة المطلقة للمرة الأولى ويسفر عن موهبة خارقة بعد ظهور شاحب جوار وحوش الإضحاك، عادل إمام وسعيد صالح ويونس شلبي في المسرح الكوميدي.
"
شكلت مشاهداتي المبكّرة بشكل غير واع اختياراتي في الكتابة
"
الراحل أحمد زكي في مسلسل "الأيام" عن السيرة الذاتية لطه حسين، ذلك الكاتب الاستثنائي الذي أخرج اللغة العربية من جاهليتها الطويلة. المسلسل كان جذابًا لوعيّ يتفتح. صراع الفتى الأعمى مع عاهته، ومع أساتذة الأزهر المتحجرين. يخرج من كلّ هذه الظلمات كاتبًا فذا وعلّامةً في الأدب والتاريخ ويتبوأ الأستاذية في الجامعة لحظة تأسيسها ثم عمادة الآداب فوزارة المعارف. الأديب العصامي بطلاً للدراما التلفزيونية للمرة الأولى. وربما صدفة قدرية زامنت ذاك المسلسل المصري في نفس الموسم مع آخر أميركي يعرض على القناة الثانية في حصة التاسعة مساء.
بعد الشيخ طه، سنشاهد "كونتا كينتي" في مسلسل "الجذور" عن السيرة الملحمية للكاتب الأفرو أميركي أليكس هايلي. عالم آخر ساحر! تبدأ هذه السلالة الأميركية من غابات غامبيا على الساحل الغربي لأفريقيا. يختطف النخاسون كونتا المراهق ويُساق في سفن شحن العبيد إلى أميركا الشمالية في القرن الثامن عشر، حيث يتحول إلى عبد في إحدى مزارع السادة البيض. وعندما يحاول الهرب من هذا المصير، يُقبض عليه ويخيره السيد بين عقوبة الإخصاء أو قطع القدم. فيختار قطع قدمه، لتستمر السلالة ترزح في أغلال السادة حتى تقوم الحرب الأهلية الأميركية ويتحرر العبيد، ويظلّ التمييز مع ذلك مهينًا؛ ومع جيل الكاتب نفسه تبدأ الأوضاع في الاعتدال قليلًا فينجح أليكس الشاب في أن يكون ضابطًا بالبحرية زميلًا لجيمي كارتر، رئيس الولايات المتحدة، في فترة عرض المسلسل ذاتها.
مسلسلان، مصري وأميركي في الفترة نفسها يُعالجان السيرة الذاتية والكتابة ونضال الفرد والعرق ضد الشروط الظالمة. في مواسم لاحقة سيقدم مخرج "الأيام" يحيى العلمي سيرة العقاد ورواية "أديب" لطه حسين في مسلسلين تاليين، ثم يقدم مسلسلًا ثالثًا، كمنتج فني لا كمخرج، عن سيرة شاعر الثورة العرابية المتمرد عبد الله النديم. ولا بد هنا من تحيةٍ لذلك المبدع الراحل الذي جعل من الكاتب، بدايةً من طه حسين، بطلًا تلفزيونيًا، ليتعّرف على تلك السيرة المضيئة طفلٌ في العاشرة، في ذاك الزمن حين كان كلّ شيء يستبعد العميد، ويدفع إلى نسيانه.
* كاتب من مصر