نكون أو لا نكون 1.. فرج فودة يكتب: لشيخ الأزهر أن يحمد الله
قصة المقال :
لا أعتقد أننى كتبت مقالا أعنف من هذا المقال، ولا أعتقد أن مشيخة الأزهر فى تاريخها قد تلقت نقدا أعنف من هذا النقد، وما تصورت يوما أن اتجادل مع رجال الأزهر أو مع مشيخة فى أمر من الأمور، ذلك لأنى رجل سياسة، وفكروهم رجال دين وعقيدة، ومذهبى أن أفصل بين الساحتين حفاظا عليهما معا، بيد أن معركة فكرية ثارت بين الأستاذ فهمى هويدى والمستشار سعيد العشماوى حول كتاب الأخير ( الإسلام السياسى). احتد فيها الأستاذ هويدى وتجاوز بصورة لم نعهدها عنه، وهدأ فيها واعتدل المستشار العشماوى بصورة نعرفها عنه، وبينما الجدل محتدمًا والحوار دائرا، إذا بالأستاذ هويدى ينشر رسالة مفتوحة من شيخ الأزهر ( الشيخ جاد الحق ) يوجهها إليه ويشد فيها على يديه ويتهم فيها الفريق الآخر ( الذى أنتمى إليه بالطبع). بالعداء للإسلام، وبالعمالة للقوى المعادية للإسلام ( كذا ) ويتساءل عمن يسلطهم على الإسلام ( كذا). وهكذا دخل الرجل ساحة السياسة بقدميه ( أقصد بمقاله ) ، وامتشق حساما يبارز به منتصرا لفريق وطاعنا لفريق، ولو استقر فى موقعه لأحاطه الفريقان بالتكريم والإجلال، ولو بقى فى ساحته ما أصابه رذاذ المعركة، لكنه انتقل إلينا فالتفتنا إليه، وطعن فينا فرددنا عليه، واتهمنا أسوأ الاتهامات بلا دليل، فكان هذا المقال الذى نشرته جريدة «الأهالى».
المقال :
لشيخ الأزهر أن يحمد الله (*)
لشيخ الأزهر أن يحمد الله كثيرا على أن الشريعة ليست مطبقة فى مصر لأنها لو طبقت لاستحق أن يجلد تعزيرا بتهمة القذف، وأغلب الظن أن ذلك كان سيحدث على ملأ، وأن جسده الرهيف كان سيعجز عن تحمل قسوة الجلاد، فللجسد الإنسانى أحكام، وشتان بين الجسد الذى ذاق حلاوة السمن البلدى، وطراوة الزبد الهولندى، وبين جسد عمر بن الخطاب الذى اسود جلده من أكل خبز الشعير بالزيت، أو أجساد من كانوا يؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة، أما جريمة شيخ الأزهر، وهى فى شرع الإسلام جريمة بكل المقاييس، فهى قذف بعض خيار المسلمين فى خطابه للأستاذ هويدى، ونعتهم بالخروج على الإسلام، وبالعمالة للقوى المعادية للإسلام، وهى تهمة لا يملك عليها دليلا، بيد أنها دليل على أنه يستقى معلوماته - كما يستقى العامة - من الصحف السيارة، أو من بعض من يصورون له أن لأقواله المرسلة أصلا دينيا أو تأصيلا فقهيا .
لشيخ الأزهر أن يحمد الله أيضًا لأن أحدا لم يتعرض له، ولم يسأله عن موقع منصبه من صحيح الدين، ذلك الدين القيم، الذى لا يعرف كهنوتا، ولا يوسط أحدا بين الله وعباده، ولا يفسح مساحة لرجال الدين، وإنما الساحة فيه واسعة للموعظة بالحسنى، تلك التى لم نجد لها فى خطابه تأصيلا، وللعلم قبل الفتوى، ذلك الذى لم نجد عليه فى خطابه دليلا، ولعله سوف يرد علينا بأننا فى هجومنا عليه نهاجم الإسلام، وهو رد نرفضه من البدء فالإسلام أعز من أى كائن من كان، وليس فى الإسلام قدسية لأحد، وبعد عهد الرسول لا عصمة لأحد، إلا إذا كان يتصور أنه ظل الله فى أرضه، أو أنه الإمام المعصوم أو المهدى المنتظر، وهنا نقول له خفف الوطء، فإنك لن تخرق الأرض ولن تبلغ الجبال طولا، وأقصد فى هجومك، وتذكر قول أبى حنيفة حين سأله تلميذه : ترى هل ما ذكرت هو الصواب الذى لا يأتيه الخطأ، فأجابه: والله لا أدرى، لعله الخطأ الذى لا يأتيه الصواب .
آية القول السابق أن أبا حنيفة كان يفهم الإسلام كما يجب أن تفهم أنت الإسلام، وشتان بين المتواضع الخائف وبين المتعالى القاذف، وشتان أيضًا بين من رفض المناصب الدنيوية جميعا وعاش من دخل تجارته وبين ما نراه عليك من نعمة ونعيم، وتمجيد وتعظيم، وما ضرنا لو زادت المناصب منصبا، وما ضرنا أن يعلو بك البروتوكول فوق رؤوسنا ورؤوس المسلمين، وما ضرنا أن تسكن فى قصر منيف، وما ضرنا أن تحصل على مرتبك من أموال دولة المسلمين، تلك التى تنعتها بأنها ربوية، وتصف بعض مصادر دخلها بأنها آثمة، لأنها تأتى من المشروبات الروحية، وما ضرنا أن نسمعك تقرأ فى المناسبات الدينية خطبا مكتوبة يملؤها نطقك بالأخطاء النحوية .. ما ضرنا هذا كله، لكن الضر، كل الضر، أن تتصور أنك يمكنك أن تخيف وأن بمقدروك أن تمنع كتابا هنا أو تصادر رأيا هناك، وأن تتخيل أن بيدك مفاتيح خزائن الدين، وأن فى جعبتك صكوك الغفران، توزعها كما تشاء، فتغفر لمن تشاء، وتكفر من تشاء، وتعز من تشاء، وتذل من تشاء، وحاشا لله أن يبلغ بك الظن هذا المبلغ من السوء، وحاشا للإسلام أن يصل فهم البعض له إلى هذا الدرك، وليس لك ولن يكون، أن تتصور للحظة واحدة أنك وحدك حامى حمى العقيدة، والمدافع عن صحيح الإسلام، لأننا جميعا مسلمون، وكلنا عن العقيدة مدافعون، ورفضنا لتصوراتك جزء من هذا الدفاع، ورفضنا لاتهاماتك إسلام فى إسلام، ذلك أننا نفعم الإسلام على أنه دين العقل، وليس دين الجمود والنقل، ودين السماحة وليس دين التطرف، وما كانت محنة المسلمين إلا لأنهم أسلموا قيادهم لمن يفتون بحكم أكل الطين الأرمنى وراشف بزاق الصديق، (1 ) وحكم معاشرة الجان، وحكم من كان لقضيبه فرعان، وأتى امرأة فى قبلها ودبرها فى آن، وهل يغتسل غسلا واحدا أم غسلين ( فتوى الفقيه البجاوى ).
الإسلام يا شيخ الأزهر بخير طالما دافع عنه من يدافع، لقاء إيمانه وليس مقابل مرتبه، ولوجه الله وليس لوجه السلطة أو المال أو المنصب، وأزهى عصور الإسلام لم تعرف شيخا للأزهر أو لغير الأزهر، وإنما عرفت من عاش بكد يده، وتعلم من أجل العلم، وأفتى من أجل العقيدة، وناصر حرية الاجتهاد، ودافع عن حق المجتهدين فى الفتوى، ولم ينكر عليهم أو يتهمهم بالكفر أو زيغ العقيدة أو العمالة، ولقد كان واصل بن عطاء وعمرو بن عبيد يفتيان بعدم قبول شهادة على بن أبى طالب والزبير بن العوام وطلحة بن عبيد الله فى حزمة من بقل، ولم يكفرهما أحد، ولم يشد على يد المختلفين معهما أحد، ولم يتهمهما بالعمالة أحد، أو يرسل لمن يتهمهما داعيا له بسلامة يمينه ..
أحمد الله يا شيخ الأزهر على العيش الهنىء، والطعام المرىء، وأذكره وأشكره كثيراعلى تخلف المسلمين، لأنه الحافظ لمنصبك، ولا تتخيل للحظة واحدة أن أحدا سوف يسمح لك برئاسة محاكم التفتيش، وبالاتهام والقمع، وبالتهديد والمنع، واصمت نصمت، وكف نكف، لأنك إن عدت عدنا، وإن قلت زدنا، واقرأ عافاك الله قبل أن تكتب، فلعلك إن قرأت يفتح الله عليك بابا من أبواب العلم والاجتهاد، حفظك الله ورعاك، وأدام نعمته عليك، وأوسع على المسلمين كما أوسع عليك، ورزقهم كما رزقك، ونعمهم كما نعمك، وعافاهم كما عافاك، انه سميع مجيب الدعاء .