إثنان من كل شيء في لبنان!
by عباس بيضونهناك أيضاً جيشان في البلد، الجيش الرسمي وآخر لحزب الله، والآن ثمة تمييز بين الدولة التي هي فوق الجميع، والسلطة التي هي مصالح السياسيين
مع صعود الدولار إلى أربعة آلاف ليرة وما يزيد، لم تعد الكورونا كافية لاستقطاب وإشغال الاهتمام العام، وحماية الوزارة الجديدة من هذا الإهتمام. الأمر الذي دعا رئيس الوزراء إلى خطاب أذاعه، يتهم فيه حاكم مصرف لبنان بـ"الغموض المريب" في إدائه تجاه تدهور العملة اللبنانية. ليس هذا وحده مدار رئيس الوزارة، ففيه أعلى ما وصل إليه الخطاب الرئاسي من اتهام السياسيين والحكومات السابقة بما أدى إلى "ترهل الدولة" وإلى الانفصال بين الدولة ومصالح السلطة . هذا التمييز بين الدولة والسلطة لم يكن وحده الجديد في خطاب حسان دياب، فقد قال "ليس لدينا ما يسمى الدولة العميقة... ولكن هناك منظومة عميقة تمثل السلطة بكل مكوناتها". هذا التنظير غير المسبوق في كلام السياسيين ورؤساء الحكومات في لبنان، يجعل خطاب رئيس الوزراء أقرب إلى المعارضة، بل هو أقرب إلى نقد النظام نفسه. الأمر الذي سمح لرئيس وزراء سابق هو سعد الحريري، بأن يتهم حسان دياب ومن حوله بـ"الانقلاب".
هذا التبادل بين المواقع والأدوار ليس جديداً، وإن كان وصل في خطاب دياب إلى منتهاه.
في لبنان الحالي هناك دائماً هذا التبادل، ثمة إثنان من كل شيء، ليس فقط الدولار الرسمي ودولار المصارف الذي تبلغ قيمته ضعف الأول ، والذي هو نوع من السطو على الدولار.
هناك أيضاً جيشان في البلد، الجيش الرسمي وآخر لحزب الله، والآن ثمة تمييز بين الدولة التي هي فوق الجميع، والسلطة التي هي مصالح السياسيين، وبالطبع فإن "الدولة" تكتفي، من أبعد مدى، باستفزاز السلطة أو دولة السياسيين العميقة واتهامها بأنها تحكّم مصالحها، الأمر الذي لا تستطيع "الدولة سوى التنديد به، واذا سألنا الحكم ماذا يفعل تجاه ذلك لن نحظى بجواب.
ثار جدل حول خطاب رئيس الوزراء. اعتبره سعد الحريري "انقلاباً" كما أسلفنا، لكن الجدل ما لبث أن تحول إلى إنقسام لبناني، فندد وزير الداخلية السابق نهاد المشنوق، بما اعتبره مؤامرة على «السنية السياسية" . لم يكن دار الإفتاء حيث تكلم المشنوق بعيداً عن ذلك وسيدافع بعد ذلك البطريرك الراعي رئيس الكنيسة المارونية عن رياض سلامة حاكم مصرف لبنان الماروني. لقد استُفزت الطبقة السياسية التي اعتبرها دياب وراء ما سمّاه "ترهّل الدولة". لم تدافع فقط عن نفسها واعتبارها هدف "مؤامرة"، لكنها أيضاً تدخلت للدفاع، أو ما يشبه الدفاع، عن حاكم البنك المركزي الذي اعتبر دياب أداءه "غامضاً ومريباً". فرياض سلامة الموروث عن عهود ماضية، سارع للدفاع عنه من ضاقوا باتهام العهود الماضية، التي ليسوا بعيدين عنها وهم بالتأكيد مع وزارة دياب جزء منها. اعتبروها معركة ضدهم، هذا ما كان وراء موقف سعد الحريري من خطاب دياب وتصريح نهاد المشنوق لكنه، أيضاً وراء دفاع تيار المستقبل عن حاكم مصرف لبنان، ووراء رفض وزراء "أمل" التصويت بالموافقة على إقالة حاكم مصرف لبنان، ما لا يتناسب مع وصف نبيه بري رئيس حركة أمل ورئيس المجل النيابي لأموال المودعين بأنها "قدس الأقداس"، والمعلوم أن رياض سلامة مسؤول عن الحجر على أموال المودعين والصغار منهم بالأخص.
الدولة كما ادّعى رئيس الوزارة تكتفي باتهام حاكم المصرف المركزي، المعيّن من قبل الدولة، وتحيله الى"المنظومة العميقة" الأمر الذي يعني أن المقصود ليس فقط "ترهل الدولة" بل "استضعافها" وضعفها تجاه ما سمّاه دياب "المنظومة العميقة". هناك، في المقابل، حكم المصارف الأقوى من الوزارة، ولا تملك الوزارة إزاءه إلا الاتهام والتنديد. لا يكفي الكلام عن "ترهل الدولة"، ولكن يمكن الكلام أيضاً عن ضعفها وعجزها أمام المصارف والسياسيين. هكذا نحن لسنا أمام دولارين وجيشين فحسب، بل وسلطتين، وما حدث دائماً فإن الأقوى هو الطرف الثاني، وليس طبعاً الطرف الرسمي.