سعيد الشحات يكتب "ذكريات صحفية".. قصة لقاء لم يتم مع عبقري الموسيقي بليغ حمدي.. تحدد الموعد ثلاث مرات وحين شكوت لـ محمد رشدي قال لي :"هو بليغ كده ولوعاوز تقابله لازم تصبر" ثم سافر إلي فرنسا للعلاج وعاد جثمانا - اليوم السابع
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
توفي بليغ حمدي يوم 12 سبتمبر 1993 في باريس، فشلت كل محاولات الأطباء لوقف تدهور كبده، بعد وصول جثمانه والعزاء فيه، ذهبت إلي المطرب الكبير محمد رشدي في منزله "فيلا أدهم "بشارع الأنصاري بعد اتصال مسبق معه، كان صوته حزينا في اتصالي به، وكنت أنا حزينا لفقدان مصر أحد عبقرياتها الموسيقية، وحزينا لعدم مقابلته صحفيا، رغم الاتصالات التليفونية من أجل ذلك.
كانت علاقتي مع رشدي متواصلة، وكنت انتهيت معه من تسجيل مذكراته، وأبديت له رغبتي في لقاء بليغ، فاتصل به وأثني عليِ، وقام بتذكيره بالحلقات التي كنت كتبتها في مجلة الموقف العربي القبرصية وشملت رحلتهما معا.. وحدثه عن رغبتي في لقائه، وفي نهاية المكالمة أعطاني سماعة التليفون لأتحدث معه بغرض ترتيب اللقاء.. كانت كلمات بليغ معي رقيقة، ومرحبة، وطلب أن أتصل بسكرتيرته في اليوم التالي.
أعطتني السكرتيرة موعدا لكنه لم يتم، ثم حددت موعد ثانيا ولم يتم أيضا وكذلك ثالثا.. فشكوت لرشدي متضايقا لكنه نصحني:" انت ممكن تروح لبليغ فى الموعد، وبعدين تلاقيه فص ملح، يعنى مش موجود، أو موجود لكنه مستعجل، أوعى تزعل من الحاجات دى، وتعمل زى واحد من مطربين اليومين دول(ذكر اسمه لى)هو صحيح كويس، لكن سألنى مرة، يعمل إيه عشان يخرج من الدائرة اللى حاصر نفسه فيها؟.. قلت له :«عليك ببليغ حمدى لو عايز ألحان تفرق معاك».. رد :«بليغ مواعيده مش مظبوطة»..قلت له :«يعنى إيه كلامك ده، إنت اللى المفروض تنتظره، مش بس كده..إنت تبوس إيده كمان..أم كلثوم بكل عظمتها لما كان بليغ يشتغل لحن لها، تسأله الأول قبل ما يمسك العود:«إنت مزاجك عامل إيه؟»..لوقال :«المزاج مش حلو ياست»..تقول له :«خلاص ما تسمعنيش حاجة".
أعاد لي"رشدي" قصة عمله لآلة عود مخصوصة لبليغ، ووضعه عنده، كان العود معلقا في حجرة الصالون بالدور الثاني، وكان مميزا بصغر "قصعته" لأن بليغ لديه كرش صغير.. قال :"علمت العود ده مخصوص عشان لوجاء إلهام اللحن له وهو موجود عندي لازم أكون جاهز له"..أضاف:"عشان أنا فاهم مزاجه وأحواله عملت كده، وانت متبقاش زي المطرب اللي بيقول:"مواعيد بليغ مش مضبوطة".. عملت بنصيحة "رشدي"، وصبرت، حتي سافر بليغ إلي باريس علي أثر تفاقم حالته المرضية، ولم يكتب له الشفاء، وعاد جثمانا، وهكذا ضاعت مني فرصة لقاء تمنيته وخططت له.
حين دخلت علي محمد رشدي في حجرة الاستقبال في الدور الأرضي بفيلته، كان حزينا مهموما، يرتدى جلبابا أبيض..أغلق باب الحجرة التي تزينها آلة بيانو بإطار خشبى أسمر، وتحدث يبكي بليغ:«بكايا عليه مش هيخلص، وفرصة إنك موجود، أبكى عليه، أولادى بيبكوا عمهم بليغ، انت ماعرفتوش، انا لما نزفت دم اتصلوا:(ياعم بليغ الحقنا)،دقايق وكان موجودا، شلنى شيل رغم أن جسمه أصغر وكمان مريض، وكان جنبي فى الإسعاف..آه يا بليغ يا حبيبى، يا ابن عمرى، بكايا هيفضل عليك العمر كله، بكايا على حلم وكفاح وأمل..وإحنا فى العزاء، كان جنبى كمال الطويل، لفتت الزحمة نظره..ناس كتير من كل صنف ولون، سألنى :«إيه الحكاية يا محمد، كل الناس دي عشان بليغ ؟"..قلت له: «هي دي الناس يا كمال..اللى يعيش للناس عمره ما يموت جواهم، وبليغ عاش للناس »..رد :«عندك حق.. بليغ فى موته بيرد الاعتبار لنا كلنا».
كان رشدى فى جلسته أكثر شجنا وذكرا لمحاسن الموتى، يستخلص كل المعانى الجميلة عن صديق العمر الذى راح، وبقدرة فائقة منه كان يضعها فى قالب نظرى: «المصرى لا يمكن أن يتنازل عن تراثه وشخصيته، والاستعمار من نابليون بونابرت لما جاء بالحملة الفرنسية حتى احتلال الإنجليز لمصر عرفوا أصالة المصريين فى الحكاية دى، بليغ وضع إيده على الميزة دى، عظمته إنه سمع الغرب ودرسه، وتأثر به فى حدود وفهم، بليغ عمل موسيقى بريئة من طينة مصر، أنا أشبهه بنجيب محفوظ، وأشبه محمد عبدالوهاب بتوفيق الحكيم، حلم بليغ كان فى الأغنية العربية القومية ملامحها من التراث، وفى فترته الأخيرة كان مجنونا بالتراث، لما كان بيجهز موسيقى مسلسل «بوابة الحلوانى»،ولأنها عن أيام عبده الحامولى والخديو إسماعيل بحث عن كتب، وسأل، وقرأ عن الحامولى، كان يفاجئنى :«الناس دى يا محمد عملت إنجازات عظيمة فى الموسيقى، وواجب علينا نكملها"
يضيف رشدي :«كان بليغ مؤمنا بأنه فرع فى شجرة الحامولى وسيد درويش وغيرهما ،وأنا صدقته، أنا شاهد على أن ملك المغرب الملك الحسن الثانى (لم يكن توفى وقتها)استضافه، وأعطاه سيارة وسائقا ووفر له كل الإمكانيات، وقال له :«لف يا بليغ المغرب، ابحث لى يابليغ عن تراثنا الموسيقى»، مثلا فى أغنيتى «لالا يالخيزرانة»،التقط لحنها من تراث الجزيرة العربية، كان فى السعودية، وسمع نغمة شعبية، جرى وراها فى كل السعودية عشان يعرف أصلها."
هدأت دموع رشدى، لكنه لم يهدأ فى استرساله :«بليغ كان مؤسسة، ثائر، وزعيم ثورة فى الموسيقى، والثورة تحتاج إلى تنظيم ونظرية، يعنى إيه الكلام ده فى التطبيق؟،أقول لك، هو كان يرى أن محمد رشدى متمسك بمصريته فيعطيه "الأغنية المحلية "،ويعطى لعفاف راضى "الأغنية العلمية "،ويعطى لوردة الأغنية «القومية»، ويعطي لعبد الحليم "الأغنية الشاملة"..ولما وجدنى غرقان فى المحلية، عمل لى «مغرم صبابا» و«وميتى أشوفك» و«طاير يا هوا» ،كنت قلقان من التحول ده، لكنه كان هو بعيد النظر وكسب رهانه ،وكل ما أشوف الناس ملهوفة علي الألحان دي، أعرف إنه كان عنده بعد نظر.. كمان لما وجد فى شادية البنت المصرية مثل محمد رشدى، عمل لها «خلاص مسافر» و«قولوا لعين الشمس ما تحماشى»،«يا حبيبتى يا مصر»، «آخر ليلة» ،وألحان تانية كتير وكونت معاها ثنائى، وبالطريقة دى وضع كل الخيوط فى إيده، وانسحب عبدالوهاب لما فهم الحالة، لكن حاسة التاجر كانت صاحية عند عبدالوهاب، فتعاقد مع معه، وفتح له استديوهات شركة "صوت الفن" ليعمل كل تجاربه، مع نجاة وشادية وعبدالحليم ورشدى وغيرهم.
يواصل رشدى:«على فكرة محمد عبدالوهاب كان دايما شايل فى نفسه من بليغ، بدليل مذكراته اللى كتبها الشاعر فاروق جويدة بعد موته، قال فيها :«بليغ كان يبدأ بالذهب والفضة، وينتهى بالنحاس والصفيح»، رأى فيه ظلما قويا لبليغ، الحقيقة بليغ كان يبدأ بالدهب وينتهى بالدهب، طول عمر عبدالوهاب كان عنده حاجة من ناحية بليغ".
كان رشدي يقصد الحلقات التي نشرها الشاعر فاروق جويدة في مجلة "الوسط "للندنية بعنوان "عبدالوهاب أوراق خاصة جدا"، وجاءت بعد نحو عام من وفاة عبد الوهاب"3 مايو 1991"، وقال فيها حسبما جاء في الكتاب الذي حمل نفس العنوان :" بليغ حمدي، ومضات من الماس مركبة علي تركيبات من الصفيح.. أحس في ألحانه بأنه عثر علي جملة جميلة جدا تدخل في وجدان الناس لما فيها من جمال وشخصية، وقد أحاطها بأي كلام ليكون قد انتهي من عمل يحسب له".
بليغ حمدي
محمد رشدي
وفاة بليغ حمدى
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء