المعتزلة: عقلانية إسلامية مبكرة (1-4)
by عربي21- حسين عبد العزيزلم يوجد اسم في الموروث الفكري الإسلامي أكثر إشكالية من اسم المعتزلة، لما يحمله من معان في المخيلة الجماعية لدى الكثيرين بسبب ارتباطه بالصراع مع ابن حنبل حول مسألة خلق القرآن.
لقد جرى نوع من الاختزال لهذه الجماعة الفكرية وكأنها خارجة عن إجماع المسلمين، وعليه لا يمكن فهم أفكارهم ومنهجهم، إلا من خلال معرفة نشأتهم ضمن السياق التاريخي الديني-السياسي الذي نشأوا فيه وحاولوا الدفاع عنه.
التسمية
لهذه الجماعة التي نشأت في القرن الثاني هجري أسماء عدة:
ـ أهل العدل والتوحيد، لأنهم أكدوا تأكيدا قويا على وحدانية الله.
ـ أهل الحق، لأنهم اعتبروا أنفسهم من يمتلك الحق.
ـ القدرية، لأنهم أنكروا القدر بما يفرضه من قيود على الذات الحرة.
ـ الجهمية، لأنهم وافقوا على بعض أفكار الجهم بن صفوان.
ـ المعطلة، لأنهم نفوا الصفات الإلهية.
ـ الثنوية، لأنهم يقولون إن الخير من الله، والشر من العبد.
ـ الوعيدية، لأنهم قالوا بالوعد والوعيد الإلهي.
ومع كل هذه الأسماء، ظل اسم المعتزلة الأشهر بينها.
يقول البغدادي في كتابه "الفرق بين الفرق" إن أهل السنة هم من وصفوهم بالمعتزلة، لأنهم اعتزلوا قول الأمة في مرتكب الكبيرة وتقريرهم بأنه لا مؤمن ولا كافر بل فاسق.
وذهب الشهرستاني في كتابه "الملل والنحل" إلى أن واصل بن عطاء هو من أسس مدرسة الاعتزال، وألصق به هذا الاسم لأنه اعتزل مجلس أستاذه الحسن البصري أثناء مناقشة مسألة مرتكب الكبيرة، فقال البصري: لقد اعتزل عنا واصل.
ويذهب ابن خلكان في كتابه "صاحب الوفيات" إلى أن قتادة بن دعامة السدوسي من أصحاب البصري، هو من أطلق اسم المعتزلة على هذه الجماعة.
أما ابن الأثير وابن كثير فيذهبان إلى أن الاعتزال بدأ مع بعض الرجال من الصحابة ممن اعتزلوا الفتنة زمن عثمان بن عفان، ولم يقفوا لا مع علي بن أبي طالب ولا مع عائشة والزبير وطلحة.
وإلى ذلك، يذهب أحمد أمين الذي أرجع التسمية إلى أولئك الذين اعتزلوا الصراعات السياسية (معركة الجمل، معركة صفين).
ويقترب المستشرق المجري جولدتسيهر من هذا الرأي، فيرى في كتابه "العقيدة والشريعة في الإسلام" أن التسمية جاءت بسبب اعتزال مؤسسي الجماعة العالم وعيشهم حياة يسودها الزهد والتقشف، وأنها نتاج نزاعات ورعة.
وإذ كان أبو الحسين الملطي يتفق مع الرأي الذي يرجع نشأة المعتزلة إلى اعتزال الصراعات السياسية، فإنه يعتبر عام الجماعة هو عام نشوء الاعتزال، وعام الجماعة هو العام الذي قام فيه الحسن بن علي بمبايعة معاوية بن أبي سفيان بالخلافة.
النشأة
أجمع المؤرخون والمفكرون على أن واصل بن عطاء وعمرو بن عبيد هما مؤسسا المذهب الاعتزالي في البصرة في بداية القرن الهجري الثاني.
وإذا كانت التسميات المتعددة للمعتزلة تؤكد غناهم الفكري، فإن هذه التسميات لا توضح الأسباب الحقيقية في تفسير نشوء هذه الجماعة.
أهم هذه الأسباب كان الصراع السياسي بين علي بن أبي طالب من جهة وعائشة والزبير بن العوام وطلحة بن عبيد الله من جهة ثانية، ثم الصراع بين علي بن أبي طالب ومعاوية بن أبي سفيان، وهو صراع كان من القوة إلى درجة إحداثه انشقاقا في جسد الأمة ما يزال مستمرا إلى الآن.
في هذا المناخ نشأت قضية من يمتلك الحق في هذا الصراع؛ إذ لابد من أن يكون أحد مخطئا ومرتكبا للكبيرة، فقتال المسلمين فيما بينهم ليست مسألة عادية.
ذهب أهل السنة إلى أن مرتكب الكبيرة مؤمن لأنه نطق بالشهادة، لكنه يعاقب على ارتكابه الكبيرة، وقد لقي هذا الموقف معارضة شديدة من الخوارج ممن قالوا بأن مرتكب الكبيرة كافر مخلد في النار، وفي ذلك تكفير لكل الأشخاص المشاركين في القتال.
اعترض المرجئة على حكم الخوارج، وكان رأيهم أنه لا يجوز تكفير مرتكب الكبيرة، وإنما إرجاء أمره إلى الله، فسموا بالمرجئة.
جاءت المعتزلة بحل وسط، وهو أن مرتكب الكبيرة لا هو بمؤمن ولا هو بكافر، بل في منزلة من المنزلتين.
وإذا كانت الأحداث السياسية والموقف منها تعكس تسمية المعتزلة بهذا الاسم، كونهم اعتزلوا الصراع، فإن تسميتهم بالمعتزلة لا يستقيم مع الصراع الآخر الذي وجدوا أنفسهم منخرطين فيه بقوة، فلا مكان هنا للاعتزال.
وأقصد بذلك، الصراعات الفكرية داخل الفضاء الإسلامي بين الفرق الناشئة من جهة، والصراع مع الديانات من خارج الفضاء الإسلامي، خصوصا المانوية من جهة ثانية.
لتثبيت ملكه، احتاج معاوية بن أبي سفيان إلى عقيدة أيديولوجية لتبرير خلافته تكون موازية ومكملة لانتصاره العسكري.
كانت الجبرية هي هذه الأيديولوجية، وتعني أن الإنسان مجبر وليس مخيرا، وهذا يعني أن سلطة بني أمية هي من تقرير الله وليس الإنسان، وكان على رأس هذا الموقف الجهم بن صفوان، لكنه تعدى هذه المسألة للقول بخلق القرآن ونفي الصفات وفناء الجنة والنار.
تصدى للجبرية بعض من يؤمنون بأن الإنسان لديه القدرة العقلية للاختيار، وبالتالي فإنه لا يمكن أن يكون مجبرا، فإذا كان الإنسان مجبرا سقط عنه التكليف، وكان عطاء بن يسار على رأس هذا التيار الذي عرف بالقدرية.
لم يتوقف الأمر عند هذا النحو، فنشأت بعد سنوات فرق جديدة تتعلق هذه المرة بصلب العقيدة، ومنهم الجعد بن درهم الذي قال بخلق القرآن ونفي الصفات عن الذات الإلهية، وما كان من الخليفة هشام بن عبد الملك إلا إرساله إلى أمير العراق خالد بن عبد الله القسري ليقتله.
في المقابل، كان الصراع الفكري مع اليهود والمسيحيين والمانويين على أشده، وتميز هؤلاء باطلاعهم على الفلسفة الغنوصية في شكلها الفارسي والمصري، ولم يكن للمسلمين آنذاك القدرة على محاججتهم.
اكتسحت المانوية -أتباع ماني بن فاتك "النبي الفارسي" القائل بمبدأي النور والظلمة- الساحة الدينية والفكرية في أواخر عهد الإمبراطورية الفارسية.
ومع دخولهم تحت هيمنة الدولة الإسلامية، أظهروا إسلامهم، لكنهم عملوا في الباطن على نشر أيديولوجيتهم المعادية للإسلام.
كان هدفهم بحسب المستشرق الإنكليزي هملتون جيب، تدمير الثقافة العربية-الإسلامية وإحلال روح الثقافة الفارسية.
وبلغ خطر المانوية مبلغا كبيرا في العهد العباسي، فجند الخليفة المهدي المتكلمين للرد عليهم بالحجة مع التهديد والقتل.
يقول المسعودي في ذلك:
كـان المهـدي أول مـن أمر أهـل البحث
من المتكلمين بتصنيف الكتب في الرد
على الملحدين، فأقاموا البراهين على
المعــاندين وأوضحـوا الحـق للشــاكي.
ولمواجهة تلك الأقوام، لجأ المعتزلة إلى الفلسفة كسلاح للقتال، لكن إطلاعهم عليها كان له تأثير كبير عليهم، فرفعوا من قيمة العقل على حساب السمع (الكتاب والسنة) لدرجة كبيرة بدت غير مواتية في بيئة ثقافية يجب أن يكون العقل فيها معياريا.
من المهم التنبيه هنا إلى أن عملية الرد على المانوية بدأت مع مؤسس المعتزلة واصل بن عطاء في العهد الأموي، فجند تلاميذه لتتبعهم شرقا وغربا، ثم بعث بعثات إلى خراسان وأرمينية للدعوة إلى الإسلام وإبطال مذهب التناسخ.
بكل الأحوال، تمكن المعتزلة من رد هجمات المانوية وتفكيك أطروحاتهم بإرغامهم على الاحتكام للعقل البياني العربي الذي يعتمد الحس والتجربة، الشيء الذي يعني نفي الغنوص منذ اللحظة الأولى.
يورد الجاحظ في كتابه "الحيوان"، مناظرة بين النظام أحد أئمة المعتزلة مع أحد الماونيين:
سأل النظام: ما تقول في رجل قال لرجل، يا فلان هل رأيت فلانا؟ فقال المسؤول: نعم قد رأيته، أليس السامع قد أدى إلى الناظر، والناظر أدى إلى الذائق؟ وإلا فلم قال اللسان: نعم! إلا وقد سمع الصوت صاحب اللسان؟
ومن جهة ثانية، استطاع المعتزلة -من خلال مشاداتهم مع أهل السنة- أن يحدثوا تطورا مهما وأساسيا داخل الفكر السني ذاته، فكانت الماتريدية والأشعرية.
الاتجاه العقلي
يمكن تلمس تمجيد العقل في شعر لبشر بن المعتمر، حين قال:
لله در العقل من رائد وصاحب في العسر واليسر
وحاكم يقضي على غائب قضية الشاهد للأمر
وإن شيئا بعض أفعاله أن يفعل الخير من الشر
تستند مرجعية المعتزلة في تعظيم العقل إلى مبادئ عدة:
ـ انسجام العقل الإنساني مع الحكمة الإلهية، طالما أن الله هو العقل، ووهب هذه النعمة إلى الإنسان.
ـ إن القبح والحسن عقليان، أي يدركان بالعقل، فالعقل الإنساني يدرك حسن وقبح بعض الأفعال بالضرورة والبداهة، ويدرك حسن وقبح بعض الأفعال بالتفكير.
اعتماد المعتزلة على مبدأ الحسن والقبح العقليين، قد أنتج مفاهيم فقهية اختلفت عن المفاهيم الفقهية التي كانت شائعة آنذاك؛ إذ اهتمت بمبدأي العدالة والمساواة واحترام الآخر.
وفي هذا، ذهب أبو بكر الأصمّ وابن عليّة إلى أن دية المرأة مثل دية الرجل، على خلاف ما هو موجود لدى المدارس والمذاهب الفقهية الكلاسيكية، التي تذهب إلى أن دية المرأة على النصف من دية الرجل.
إن سمو العقل على النقل عند المعتزلة لا يفهم منه على أنه ابتعاد عن الدين، وإنما ضرورة فهم الدين وفق مقتضيات العقل، فلا ينكر المعتزلة المرويات والنصوص، بقدر ما يستخدمون العقل لفهم النص، فالعقل فاعل لا مفعول وفق الجاحظ.
وجب التمييز بين المعتزلة الأوائل وبين المعتزلة الأواخر: في المرحلة الأولى أعطي للعقل قيمة كبيرة جدا لدرجة التقديس، لكن في المراحل المتأخرة تم وضع حدود لعمل العقل، حيث اكتشف أئمة المعتزلة المتأخرون أن العقل عاجز عن تفسير بعض القضايا، مثل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على سبيل المثال لا الحصر.
ومع ذلك، فإن المعتزلة بمجموعهم قد توخوا الدفاع عن الدين بتحرير العقل من السلطان الخارجي، وإفساح المجال أمامه ليحول حرية التفكير في الإسلام إلى فكر حر جهد المستطاع يقول عادل العوا.