هل انتصرت الميدوقراطية؟
مأمون فندي
قبل أن نعلنَ انتصار الميدوقراطية في مجتمعاتنا، علينا أن نعرف هذا المفهوم الجديد ونحدّد ملامحه. هذا مفهوم أصكّه هنا كمفهوم يفسر ظاهرة الانحطاط الحضاري بشكل عام يمكن تطبيقه على مجتمعات مختلفة من العالم. المفهوم مأخوذ من الكلمة الإنجليزية (mediocrity) وليس لهذه الكلمة ما يقابلها في العربية من حيث تعددية الدلالة، ولكن يمكن الإشارة إلى معنى أولي وهو «الدرجة الثانية»، ولكن ستتضح دلالات المصطلح فيما سيأتي لاحقاً. فما هي الميدوقراطية أولاً؟ بداية، الميدوقراطية غير الديموقراطية، رغم أن للكلمتين الحروف ذاتها ولكنها مرتبة بشكل مختلف. الميدوقراطية في واحدة من دلالاتها هي القبول لدى الأفراد والمجتمعات بالدرجة الثانية كموقع على عدة مستويات سياسية وثقافية واجتماعية. وفي المجتمع الميدوقراطي يلغي الناس طموحهم للوصول إلى التميز أو الدرجة الأولى لينعموا براحة القطاع الأوسع «مع الخيل يا شقرا»، وهذا ليس قاصراً على من هم مع التيار بل يشمل منهم ضد التيار أيضاً. فالنظام من الدرجة الثانية ينتج معارضة تشبه هذا النظام (الميدوقراطية رايح جاي). الميدوقراطية هي وببساطة الرضا بالقليل ورغبة الأفراد والمجتمعات في البقاء في هذا الموقع الذي لا يسمح لا بالتميز ولا بالفشل. رغم أن الفشل، بكل تأكيد، مرحلة تبدو أدنى، فإن الفشل هو عتبة على سلم الحياة أفضل من عتبة الميدوقراطية (الدرجة الثانية)، لأن الفشل أكثر من مرة غالباً ما يدفع الفرد إلى الرغبة في الوثوب إلى مرحلة التميز متجاوزاً مرحلة الميدوقراطية. وبصورة أوضح، الميدوقراطية أيضاً تعني غياب معايير التميز، وكما تجد في بعض الطائرات هي إلغاء الدرجة الأولى، ويكون أول مقعد بحكم السعر والتميز والخدمات هو مقعد الدرجة الثانية (درجة البيزنس).
مجتمعات درجة البيزنس تحصر المنافسة وتجعلها حامية الوطيس بجوائز محدودة القيمة على حجز مقعد في الدرجة الثانية. الدرجة الأولى أو درجة التميز التي تكون المنافسة فيها سهلة لأن من فيها قلة، كما أنها ليست مهمة بالنسبة لمجتمعات الدرجة الثانية. مجتمع الميدوقراطية هو مجتمع يتخلى فيه الأفراد والقيادات عن المسؤولية، مجتمع شعاره «دع المركب تسير مع التيار». والأخطر في المجتمع الميدوقراطي هو اختلاط المعايير والتباسها مما يجعل ما هو درجة ثانية في مجتمعات أخرى يبدو كأنه قمة الإبداع والتميز في المجتمع الميدوقراطي، التباس يحمل فيه قادة الميدوقراطية الثقافية كل العلامات الظاهرية لمجتمع التميز، ولكنها علامات تجارية مسروقة (knockoff) ومغشوشة مثل حقائب اليد النسائية شانيل وفندي ولويفيتون المضروبة.
المجتمع الميدوقراطي ببساطة ونتيجة لتسيد أشباه المتعلمين فيه للمشهد في كل المجالات تقريباً لا يستطيع أن يرى ما هو أفضل. يستمر على هذا الحال لفترة طويلة قد تصل إلى نصف قرن من الزمان، إن لم يتم إنقاذه يتحلل ويفنى، فالمجتمعات والثقافات أيضاً تموت.
وبالعودة إلى سؤال المقال: هل انتصرت الميدوقراطية في مجتمعاتنا وما ملامح هذا الانتصار وما تبعاته؟ فإن مجتمعاتنا العربية من المجتمعات التي لم يكن التاريخ معها كريماً على الأقل على المستوى الثقافي. فهي مجتمعات كانت كمن يلعبون رياضة الركوب على الأمواج. بدأت عندنا فكرة القراءة والكتابة، وقبل أن تتجذر الكتابة وتجري فينا مجرى الدم، وندخل مجتمع الحداثة الذي أساسه الكتابة والبعد عن الحضارة الشفوية، جاء إلينا الترانزستور أو الراديو، وأخذنا إلى العالم الشفوي مرة أخرى، وبعدها بقليل ركبنا موجة الشفوي بالصوت والصورة في حالة التلفزيون. كل موجة نركبها لا نستقر عليها فتأخذنا موجة أخرى. وفي التلفزيون ليست هناك معايير وأحياناً يكون النجم التلفزيوني أمياً أو لم ينتهِ من دراسته الثانوية فليس هذا هو المطلوب. المطلوب هو منظر الحداثة الخارجي لا جوهرها. ليس مطلوباً أن تكون متميزاً من الدرجة الأولى، المطلوب هو أن تسبح معنا في ترعة الميدوقراطية التي تبدو بضوء الشاشات الأزرق كأنها بحر صافٍ.
ركبت كثيراً في طائرات ملغاة فيها الدرجة الأولى، يكون الأول فيها هو الثاني في مجتمعات أخرى. ولكن الثاني (أو الدرجة الثانية) مبهر في مجتمعاتنا. فنحن كما يفعل الناس في أي طابور لا ينظرون إلى الأول في الطابور، بل عيونهم معلقة بالمسؤول خلف الشباك ليعلن «اللي بعده» أو التالي أو الثاني. «اللي بعده» أو الثاني وليس الأول هو من ينصب عليه اهتمامنا في المجتمع الميدوقراطي.
مقلق في مجتمعات الميدوقراطية أن يصبح التلفزيون ثقافة، وقراءة الصحيفة هي الثقافة الأعلى، ويغيب الكتاب تماماً أو على الأقل يغيب الكتاب العميق.
أصبح المثقف عندنا هو الأصولي السابق الذي يعرف شذرات من قصص الماضي، كما أصبحت قدرته المشاعرية على التحول إلى ما يشبه الإنسان العادي المتقبل لنفسه وللآخر هو معجزة مبهرة. «هذه هي قمة الإعجاز العلمي» بصوت اللواء عبد العاطي.
الميدوقراطية كمفهوم يجب ألا يقبل على علاته، فأهمية المفهوم في العلوم الاجتماعية هي قدرته على التوصيف بشكل أفضل وكذلك فائدته التحليلية. فلو كان المفهوم غير قادر على استيعاب المقارنة مثلاً، فلا يمكن اعتماده مفهوماً جديداً. والميدوقراطية تصلح للمقارنة بين المجتمعات وبدرجات مختلفة. فكما في مثال الطائرات الذي استخدمته هناك درجة ثانية وثانية مميزة وثانية أقرب إلى الترسو أو الثالثة (كلوب وورلد).
وأنا أرنو ببصري إلى مجتمعاتنا العربية، ألاحظ بما لا يدع مجالاً للشك عندي أن الميدوقراطية قد انتصرت وعلى معظم المستويات. وإذا أخذنا الشعر مثالاً، العامي والفصيح معاً، لا تفوتك ملاحظة عوامل التحلل والانحطاط في اللغة والصورة وموضوع القصيدة. بات الأمل في الارتقاء بالمعايير الحاكمة للتحضر والتقدم ملتبسة أو تزيغ البصر، ما أفقدني الأمل في الانتقال إلى مجتمعات التميز.
كارثة الميدوقراطية هي عدم قدرتها على تخيل شيء أفضل منها. العكس في مجتمعات التميز والقادرة على رؤية العبقرية واستقطابها. الميدوقراطية شيطان يتلبس المجتمعات فترفل في جهلها مختالة برداء التخلف، ولا يمكن إخراج هذا الشيطان من أجسادنا وأجساد مجتمعاتنا إلا بقراءة سفر من أسفار التميز والرقي. أول أسفار الرقي هو إرساء قواعد حاكمة للاختلاف. ووظيفة الدولة والمجتمع هي الحفاظ على هذه القواعد والمعايير أياً كانت نوعية المعارك، فمن دون إرساء قواعد الاشتباك وقواعد الاختلاف تستشري الميدوقراطية كما الوباء.
قد ينتشر مفهوم الميدوقراطية أو ينحسر، ولكن المؤكد لديّ أنه وفي المستقبل لن ينسبه الميدوقراطيون إلى صاحبه.
الشرق الأوسط