https://i.middle-east-online.com/styles/home_special_coverage_1920xauto/s3/2020-05/omran_1.jpg?nqmDorxfs32nUTjrjrv0acSg_2EX.SjA&itok=MeOn-G3h
الرواية غنية بلغة باذخة بالكثير من الصور السردية

يبرير في "وصية المعتوه" يعالج الجنون

الروائي الجزائري إسماعيل يبرير يمتلك أدوات الحكي المشوق، وينحت خصوصيته.

by

من الأسطر الأولى تشد القارئ رواية "وصية المعتوه"، الصادرة عن "دار ورق" بدبي بالاشتراك مع "تنمية" في القاهرة.
رواية أظهر الكاتب قدراته على تقديم مجتمع حي "ديار الشمس" ذلك المجتمع الذي أقتنع أن يعيش بين ثلاث مقابر، ليبرز المكان كشخصية رئيسية إضافة إلى الراوي وصديقته فطيمة وصديقهما السعدي، وشقيقه إدريس الذي وصم بالمعتوه.
الوصف لم يأت عاديا، خاصة وأن الكاتب يدعو القارئ إلى عالم نادرا ما طُرق؛ عالم المجانين، من خلال شخصية إدريس وما تحكي وصيته من حياة يعيشها مع من حوله وفي الوقت نفسه يعيش أوهامه. وهنا يبرز الجهد الذي بذله يبرير في تقدم المختل عقليا، وهو بذلك يكون من القلائل من يرافقون المتلقي على بساط أعمالهم إلى عوالم كثيرا ما تمنى أن يفهمها، وأن يتمثل من يصادفهم ممن فقدوا عقولهم، ليبرعم الأسئلة كيف يرون من حولهم ويرون أنفسهم، دوافعهم ... الخ، ذلك العالم الذي نظنه غير مقبول. في هذه الرواية نجد إدريس شخصية تسير في خطى مضطربة بين الحكمة والجنون وكأن خيطا جد رفيع يربط ويفصل بينهما.
الرواية تتكون من ثلاثة فصول، هي: صاحب الوصية يموت أخيرا، بين المقابر الثلاث وبمحاذاة الوادي، لا تسخر أبدا من وصية المعتوه. 
الكاتب استخدم عدة ألاعيب، منها تعدد أصوات الرواة؛ فالفصلان الأول والثالث شخصية مشاركة في أحداث الرواية. وجاء الفصل الثاني على شكل وصية، أو مذكرات كتبها إدريس شقيق الراوي، وكان مصابا بمرض نفسي. إضافة إلى راو "رائي" وهي ذات ثانية لإدريس. كانت كثيرا ما تقاطعه لتحدثه عن ذاته. ومن ألاعيبه تلك الحكايات التي تتوالى أو تتوالد بشكل مدهش، وكذلك عدم وصف المكان أو الشخصيات دفعة واحدة، ليتعرف عليها المتلقي بطول صفحات الرواية، في ومضات وصفية لا تنتهي، وبشكل يقرب تلك الشخصيات فاسحاً المجال للقارئ بالغوص في أعماقها رويدا رويدا. وكذا يرى الأمكنة بعينيه، ويسمع ما يدور وكأنه جزء من تلك المشاهد المدهشة.  
الرواية غنية بلغة باذخة بالكثير من الصور السردية، وبجُمل نسجت بمهارة، ضمن حوارات مع الذات ومحيط الراوي. فالشاب الذي يعمل عجَّانا في مخبز "ربما ينبغي لي أن افكر في عملي الذي فقدته منذ قليل.. لم أعد ضمن فريق العمل الليلي وهذا - على الرغم من أن اثره السلبي علي - فأنه خيار يمنحني اكتشاف النهار.. بعد ان ظللت غائبا عنه طوال سنوات.. أثناء حثي الخطى نحو ديار الشمس.. كنت أستعيد غربتي في حيي...". ثم مستعرضا أوضاع جيله "كل الذين كانوا يحلمون معي توقفوا عن الحلم سريعا وكرسوا حياتهم للظهور ككبار...". يحدث نفسه بعد أن اضطر للخروج من المدرسة، وكثير من أقرانه للبحث عن عمل لضيق الأحوال المعيشية، وحتى يكون له مهنة، وهو الذي كان يحلم مثل الكثير من أقرانه أن يواصل تعليمه ليكون طبيبا أو طيارا أو مهندسا.

يحدث نفسه عائدا إلى حيهم، بعد أن حضر من يخبره بوفاة جده، واصفاً الشوارع التي يسلكها إلى حيهم؛ شوارع تجاور "الجبانة الخضراء" مقبرة المسلمين، ثم مقبرة النصارى، وبمروره يصف ما يشاهد، موحيا بأن تلك المدينة كانت تجمعا إنسانيا، تتعايش فيها طوائف مختلفة. وأن جده الراحل كان حارسا لمقبرة النصارى "التي ظل جدي يحرسها طوال سنوات..."، متسائلا أثناء عبورها "لماذا أعتنى جدي بتلك المقبرة أكثر من بيته، لقد كان يمسح حتى الزهور الحجرية. جدي لم يحرس المقبرة وحدها فقد حمى طوال سنوات طويلة، أجيالا من العصافير التي لجأت إلى أشجار المقبرة...". وإضافة إلى المقبرتين هناك ثالثة لليهود.
الكاتب يدعونا لرفقته لنتعرف إلى إيقاع مجتمع لا يبدو مختلفا عن أي مجتمع عربي، بتلك العلاقات الإنسانية المتداخلة بين الأبناء والآباء، وبين أفراد الأسر المختلفة، وإن ظهرت بعض شخصيات الرواية أكثر تميزا مثل فطيمة التي عاشت طفولتها وصباها المبكر صديقة لإدريس كاتب الوصية أو المذكرات وصديقهم الثالث السعدي، حيث شكلوا ثلاثيا متجانسا إلا أن حاج بورقيبة والد فطيمة زوجها صغيرة، لتعيش سنوات صابرة على زوجها العاجز سنيا. وفي أول فرصة تهرب وتتمرد حتى على والدها، وفي النهاية تتزوج من السعدي وتنجب منه.
مجتمع الرواية أوسع من الثلاث الشخصيات حيث يتجاوز العشرين؛ شخصية الراوي ووالده وجده وأخوه المعتوه صاحب الوصية الذي يختفي في أول صفحات الرواية ليترك الراوي لوصية المختفي إدريس تتحدث لأكثر من ثمانين صفحة عن تجربته، ثم والدة الراوي، الماحي إمام مسجد الحي، المصفي شيخ الكتاب، الحاج بورقيبة والد فطيمة، الخالة تاقية، صليحة بنت عمة الراوي، عيشوش الخالة، سليمان "مالك الحزين"،  كلثوم العمة، العيد حلاق الحي، عيسى القاوري، صالح بطاط، إضافة إلى شخصيات عديدة. كائنات بأسماء نابعة من بيئتها كبورقيبة، بطاطا، القاوري، مالك الحزين، المصفى، عيشوش، الماحي إلى آخرها. ولم يكتف الكاتب بالأسماء، بل أن معظم حوارات الشخصيات جاءت باللهجة المحلية، مميزا درجات الوعي بينها. 
ونورد بعض الجمل "انت والسعدي زينين مش كيما وجوه الصاشي". و"أيا طبق برا سامحنا سي محمد". و"اف من البونت". و"اكمي قارو ينحلك وجع راس". و"حيلو جدو الدايم ربي". و"عاونوه ينوض واعطولو حاجة حلوة". و"يالخضر هاه ها وراه قبر بويك". و"يا أنعم سيدي والله غير نكسرلك راسك كي نكبريا الحقار". و"انت والسعدي زينين مش كيما وجوه الصاشي"، "ايا طبق برا سامحنا سي محمد"، "اجري يا طفل بيك يحوس عليك"، وغيرها من المفردات والمسميات المحلية. 

https://i.middle-east-online.com/s3fs-public/inline-images/omran2_1.jpg?Pm08D2W9bHxS65Bm5SoM2V8v6wP8yc2p
شخصيات الرواية تضج بالحيوية

إضافة إلى استخدام الأمثال على لسان الشخصيات، ما يجعل الرواية بنت بيئتها، وكذلك يساعد القارئ في التعرف على تفكير ذلك المجتمع وتخاطبة "لا تضحك على خوك المومن لا يصرالك كي هو". و"جزار وعشاه لفت". و"العيش قليل وفيه ذبان". و"الطباب يطبب عينه العوراء".
زمن الرواية لم يتجاوز عدة أيام، هي دفن الجد وتلقي العزاء، ليستخدم الكاتب حيلة الوصية التي تذهب بالقارئ إلى ماضي الشخصيات، وعوالم الصبى والشباب، وتلك المتخيلة التي لا يراها إلا إدريس، ذلك الشاب الذي ظل يعامله الجميع ويصفونه بالمعتوه، الذي وجد السلوى في فطيمة، زميلة الصفوف الأولى من الدراسة. وكذلك السعدي صديقه، منافسه على قلب فطيمة، مستخدما أسلوب الأرجوحة في الحكي، ليذهب  إلى أحداث الماضي. ومن الماضي يعود للحاضر في سرد ممتع ومشوق. 
المكان الرئيس للأحداث حي "دير الشمس"، وهو حي من أحياء مدينة "الجلفة" التي يشقها وادي ملاح إلى نصفين، وتضم عدة أحياء أخرى منها: صون ميزون، مقام الرقاديات، القرابة، عين أسرار، باب الشارف، عين الشيح، الضاية، تلك الأمكنة إضافة إلى ثلاث مقابر: الإسلامية والنصرانية واليهودية. مثّل كل ذلك بيئة أحداث الرواية، إلا أن "دير الشمس" هو المكان المحوري، والأكثر فقراً، ولذلك يجزم الراوي بأن الحي السبب في أوضاع وحالة السكان المزرية: "أتساءل لِمَ لمْ يقرر السكان أن يأتوا على الحي يحطمون بيوته ويرحلون إلى مكان آخر، حيث يعيش الناس قريبين من الحياة، وليس التصاقا بالموت...".   
العلاقات المتشابكة بين أفراد مجتمع الرواية، نجدها علاقات تتسم بالبساطة والتلقائية رغم تشابكها، بداية بتلك العلاقة بين الأصدقاء الثلاثة: إدريس وفطيمة والسعدي. وقد مثّلوا الجيل الجديد. فطيمة يزوجها والدها صغيرة، تلك الفتاة التي كانت تخفيها أمها حتى لا يرى والدها الحاج بورقيبة تفتح أنوثتها وحتى لا تحرجه بجمالها، لسارع بتزويجها، تلك الزيجة التي تتخلص منها بعد سنين من المعاناة، فقد كان زوجها عنين "تزوجت فطيمة ونحن نستعد لتوديع الصف الثامن.. صحيح أن صدرها أنطلق مسرعا إلى الأمام.. وأنها أصبحت أطول من.. إلا أن أمها خالتي عيشوشة اجتهدت في إخفاء ثدييها لكي لا يتذكر الحاج بورقيبة أن فتاته الأخيرة تجرح كرامته بجمالها"،   لتتمرد فطيمة على حياة لم تكن من اختيارها، وتترك بين زوجها ولا تعود إلى بيت أبيها. وذلك التمرد رمزية لتمرد الجيل الجديد، وبالذات النساء على ما يرسمه لهن المجتمع من مسارات. 
ثم إدريس ذلك الشاب المتفوق الذي يتحول إلى معتوه محطم ثم مجنون نزيل مستشفى الأمراض العقلية. ذلك الانكسار نتيجة لخيبة أمال جيل كان يحلم بأن يكون ذا شأن في مجتمعه. ثم السعدي الذي يهاجر للعمل في ليبيا لكنه يعود بعد سنين بجاكته الجلدي نفسه الذي سافر به. 
الكاتب أوصل رسالته بقوة، وفي قالب فني شيق، حيث نسج أنساقا حكائية متشعبة. فالراوي يجزم بأنه قتل صديقه السعدي. لنجد أن ذلك القتل لم يتم، وأن السعدي حي يرزق وأن روح إدريس تذهب إلى عوالم وأحدث لا يراها غيره. بل أن يشعر بأنه أكثر من شخص، ليناجي نفسه على أنه كائن ثان.
شخصيات الرواية تضج بالحيوية، منها التقليدي والمركب. وتلك النساء المغلوبات على أمرهن، وكبار السن من فضلوا الدعة. وقد سرَّب الكاتب بالتدريج صفات تلك الشخصيات، ولم يدفعها بها دفعة واحدة، ولذلك ظل التشويق يتجدد، وظلت الشخصيات تتفتح رويدا رويدا، لتصاحب المتلقي أحاسيس من يتعرف إلى شخصيات جديدة حتى ألفها. 
إسماعيل يبرير روائي يمتلك أدوات الحكي المشوق، ينحت خصوصيته أو بصمته المتميزة، فلها ألعابه التي يغوي بها المتلقي، وله قدرة فذة على الوصف.
لم أحصل على أعماله الروائية رغم ترددي على بعض معارض الكتاب في الوطن العربي، لكنني ومن خلال هذا العمل، وإيغاله في أعماق الإنسان الجزائري، أُجزم بأن لديه مشروعا يعمل على إنجازه، وله رؤية يصلها من خلال روايته المتعددة التي أتمنى قراءتها.
حين أقول بصمة الكاتب، أذكر القارئ الكريم ببعض الكتاب العرب، ممن أضحت لهم أساليبهم المتميزة، أو مسارات أعمالهم الموضوعية، مثل: الكوني، الأعرج, حنا مينا، عبده خال، منيف، محفوظ، الأسواني.. وغيرهم.
عمل روائي متميز يستحق دراسته من قبل النقاد والباحثين عن الرواية العربية الحديثة.