سياحة على الأنقاض
by العنود المهيريحمدت الله بانتهاء الجولة التي استغرقت 3 ساعات طويلة، لأنني امتثلت لأوامر الدليل السياحي، وارتديت حذاءً رياضياً قديماً وبالياً. فقد هطل المطر بغزارة على مدار الليلة الماضية، وجعل المشي مستحيلاً في مدينة الصفيح الشاسعة دون أن تغوص الأقدام في مزيج مقزز من الوحل والفضلات البشرية.
أيقع اللوم على المتاجرين بالمصائب، أم على المُقبلين على شراء هذه التجارب اللاإنسانية المُعدة للاستهلاك السريع؟
بالطبع، حمدت الله على نعم لا تعد ولا تحصى بنهاية جولتي المطوّلة في كيبيرا، أضخم مدينة صفيح في أفريقيا. لم أحتج إليها بالضرورة لأدرك وجود جانب قاس للحياة، ولكني استذكرت الكثير برؤية مرضى الإيدز المهمشين، والعمال الجوعى، وصفوف الفقراء الذين يتشاركون حماماً عمومياً واحداً مع المئات.
سرى في جسدي تيار من التواضع برؤية البيوت المفتقرة إلى الكهرباء والمياه، والمدراس المكتظة بالطلبة المعدمين، والحيوانات المحتضرة إهمالاً وحاجةً.
الحمد لله دائماً وأبداً. لا سيما على نعمة الوعي التي لن تسمح لي بتكرار مثل تلك التجربة القبيحة.
فحينما بدأ الوضع في الاستقرار في بعض المناطق السورية في الأعوام القليلة الماضية، وراحت تُفتح الحدود شيئاً فشيئاً مع الجارة الأردن، قادتني الصدف إلى اكتشاف ما يُعرف بقطاع الـ dark tourism، أو "سياحة المأساة".
إن بعض الشركات السياحية باتت تروج لاستئناف الرحلات في الداخل السوري، ولكن هذه بالمرة بنكهة مختلفة عن تلك التي دعتنا سابقاً إلى "معبد بعل"، ومصيف بلودان. باتت العروض تحمل صيغة سوداوية قاتمة .. ومتعمدة:
"اختلطوا بالسكان المحليين فيما تمرون على القرى المُبادة".
"زوروا المواقع الأثرية التي بات يخيم عليها الدمار".
"استمعوا إلى قصص السوريين عن الحرب الأهلية".
سرعان ما فهمت أن الانتهازيين لم يأتوا بجديد، بل هذه التجارة تروج، مثلاً في الضفة الغربية أيضاً، أين تتخصص بعض الرحلات في زيارة المخيمات، خاصةً بلاطة، وجنين، والدهيشة، بسعر معقول، سيتسنى لك أن تعود محملاً بتذكارك الشخصي الفريد من النكبة. يا للروعة!
وكل ذلك يتم تحت ذريعة إنسانية محكمة، مثل الاطلاع عن قرب على المعاناة البشرية، وكسر حدود التعتيم الإعلامي الممنهج على بعض القضايا، والتواصل مباشرةً مع الناجين والمتضررين.
إنه قطاع مصمم بعناية ليوهمك بأنك تقطع شوطاً شاسعاً من الوعي لا يعرفه الذين يتموضعون في ظلال الأهرامات، ويحدّقون في "الموناليزا".
ولكن في الواقع، هي سياحة تقوم على أنقاض الآلام والمصائب البشرية، سواءً كانت في مناطق النزاعات والحروب، أو في معاقل العوز والفقر، أو حتى مواقع الكوارث، مثل تشيرنوبل الأوكرانية.
إنها تجارة تحترف تحويل العذابات البشرية إلى مزارات مثيرة لعواطف واهتمام الفضوليين، ورغبتهم في عيش التجارب واللحظات التي تكسر هيمنة الملل على حياتهم، لعلهم يحصدون منها بأبخس الأثمان لقطة مؤقتة تساوي عمراً كاملاً من الأوجاع عند غيرهم.
وسيظل السؤال معلّقاً في الهواء، أيقع اللوم على المتاجرين بالمصائب، أم على المُقبلين على شراء هذه التجارب اللا إنسانية المُعدة للاستهلاك السريع؟