إردوغان: مشروع خطير أو ظاهرة صوتيَّة؟

by

النظام التركي الذي حقّق النجاحات الاقتصادية، واتَّخذ الإسلام هُوية له، لم يمانع رئيسه زيارة "إسرائيل"، ومُصافَحة شارون، وتلقّي وسام الشجاعة منه، بل وزيارة قبر مؤسِّس الصهيونية، تيودور هرتزل، وووضع الزهور عليه.

بثّ الإعلام الإماراتي والمصري والسعودي خلال الأسبوعين الماضيين الكثير من التقارير التي تسخر من تداعي ما تبقّى من مشروع إردوغان في سوريا، بالتزامُن مع تقدّم الجيش العربي السوري (الذي لا تزال القنوات السعودية تصفه بجيش النظام أو قوات الأسد)، وإطباقه على آخر معقل للجماعات الإرهابية المدعومة من أنقرة في إدلب، وعجز إردوغان عن مُساعدة تلك الجماعات إلا بإطلاق التهديدات الخاوية.

كما سخرت بعض تلك التقارير من تعرّض نقاط المُراقبة التركية للحصار، واضطرار الجيش التركي إلى الانسحاب من سراقب، وذلك بعد ضربة صاروخية سورية تلقَّتها قواته التي فشلت في منع الجيش السوري من الاستيلاء على البلدة الاستراتيجية.

إنّ الكثير من التعليقات الموجودة في صفحات ما يُسمَّى "المعارضة السورية" في مواقع التواصُل الاجتماعي تسخر اليوم أيضاً بمرارةٍ من إردوغان وتهديداته، فالمُعارِض السوري المُرتبِط بالسفارات الغربية هو أكثر من خَبِر تهديدات الرجل منذ أن بدأت الحرب في سوريا وقبل وصول الدعم الروسي وبعده، عندما كان يُصرِّح إنّ "المدينة الفلانية خطّ أحمر"، فيدخلها الجيش السوري بعد يومين وإردوغان يتفرَّج.

ويتذكَّر هؤلاء جيّداً عندما أسقطت الدفاعات السورية طائرة مُقاتِلة تركية في العام 2012 وقتلت طيَّارها. يومها، ادَّعى إردوغان أنَّ المُقاتِلة لم تخرق الأجواء السورية، وهدَّد بالحرب، ثم ابتلع تهديده، لكن هل يُمكن اعتباره مُجرَّد ظاهِرة صوتيّة، كما يصفه اليوم إعلام المحور "السعودي – الإماراتي – المصري"، وكما يصفه الكثير من المُعارِضين السوريين خائبي الأمل؟

في الواقع، يُمثّل نظام حزب العدالة والتنمية الحاكِم في تركيا منذ عقدين أكثر من مُجرَّد صوتٍ إعلاميّ، فهذا النظام أدَّى دور القاطِرة لمشروع أميركيّ خطير لحُكم العالم العربي، عبر تسليمه بالوكالة للتنظيم العالمي لحركة الإخوان المسلمين.

وبحسب ما يتوفَّر من معلومات، فإنَّ أُسُس هذا المشروع وُضِعت منذ أن تأكَّدت الولايات المتحدة من استحالة السّيطرة على المنطقة مباشرة، عبر الغزو العسكريّ وبالاعتماد على التكنولوجيا العسكرية المُتقدّمة، وذلك بعد الاستنزاف القاسي الذي واجهه الجيش الأميركي من قِبَل المقاومة المدعومة من سوريا وإيران في كلٍّ من الساحتين العراقية والأفغانية، (علَّق "دونالد ترامب" على اغتيال الفريق قاسم سليماني بقوله للأميركيين: عندما ترون جنوداً مبتوري الأرجل في شوارع أميركا، تذكَّروا أنَّ ذلك الرجل كان وراء بَتْرِ أعضائهم).

وقد خسر الاقتصاد الأميركي نحو 7 تريليونات دولار خلال الحربين الأفغانية والعراقية، ليصبح حرفياً على حافة الإفلاس، من دون أن يتمكَّن من إحكام السيطرة على البلدين، فما بالك بالتوسّع نحو سوريا وإيران، وفقاً لما كانت تنصّ عليه خطة "حجارة الدومينو" للباحِث الاستراتيجي الأميركي برنارد لويس!

وفي ذروة تلك الظّروف في العام 2005، وفي ظلِّ غَوْص الولايات المتحدة في مُستنقعَي أفغانستان والعراق، قام الباحِث الأميركي الشهير ذو الارتباطات الأمنية، صموئيل هنتغتون، صاحب الكتاب المعروف "صراع الحضارات"، بزيارةٍ إلى إسطنبول، وحاضَرَ في الأتراك، وفي أعضاء حزب العدالة والتنمية الإخواني، قائلاً: "مكان تركيا ليس في مؤخّرة الاتحاد الأوروبي، بل في قيادة العالم الإسلامي".

هنا فقط تغيَّر كلّ برنامج حزب العدالة والتنمية من السعي المحموم إلى الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي إلى الاهتمام بقضايا الشرق الأوسط (لنتذكَّر أنَّ حزب العدالة والتنمية، وفي سعيه السابق لضمِّ تركيا إلى الاتحاد الأوروبي، ألغى العديد من القوانين التي لا يُتوقّع من حزبٍ ذي توجّه إسلامي إلغاؤها، مثل قوانين تجريم الخيانة الزوجيَّة والشذوذ الجنسي وإلغاء عقوبة الإعدام).

منذ ذلك الحين، بدأت مئات المليارات من الاستثمارات والقروض الأوروبية تتدفَّق نحو تركيا، لتجعل منها "النموذج الإسلاميّ المُعتدِل" بالمقاييس الغربية، والذي ينال في الوقت نفسه إعجاب المسلمين، ويتفوَّق في جاذبيّته على محور المقاومة.

إنّه النظام الذي يُحقّق النجاحات الاقتصادية، ويتَّخذ الإسلام هُوية له، لكنَّ رئيسه لا يُمانِع زيارة "إسرائيل"، ومُصافَحة شارون، وتلقّي وسام الشجاعة منه، بل وزيارة قبر مؤسِّس الصهيونية، تيودور هرتزل، وووضع الزهور عليه.

في الواقع، لم تكن سوريا وإيران غافلتين عن التحضير الأميركي لاستخدام تركيا في مواجهة محور المقاومة، وهو ما يُفسِّر كل ما قدَّمته لها الدولتان من المزايا الاقتصادية والاستراتيجية، في محاولةٍ لإقناع القيادة ومؤسَّسات الدولة التركية بفوائد التشبيك والتكامُل مع دول المنطقة ومزاياه، بدلاً من أداء دور الوكيل الأميركيّ الذي يحاول حُكم المنطقة لصالح واشنطن، وبما يحفظ أمن "إسرائيل".

وكمثالٍ على ما قُدِّم لتركيا، فإنَّ مُجمَل الصادرات التركية إلى دول الخليج، والتي كانت تعبر الأراضي السوريّة بإعفاءاتٍ جمركية، وصلت إلى حوالى 20 مليار دولار سنوياً قبل الحرب السورية، إضافةً إلى اتفاقيات تصدير الغاز التي وقِّعت مع إيران.

وعندما حانت لحظة الاختيار في بدايات ما أسماه الإعلام الغربي "الربيع العربي"، فضَّل إردوغان الانخراط في المشروع الأميركي للمنطقة على مشروع التكامُل والتشبيك مع دول المنطقة. وبالفعل، بدأت العواصم العربية بالتساقُط تِباعاً تحت حُكم الإخوان الذين بايعوا السلطان في إسطنبول (مصر، تونس، ليبيا، المغرب، واليمن).

لقد حكمتها جميعاً حكومات إخوانية، بل إنَّ الولايات المتحدة الأميركية، وخلال أول عامين من "الربيع العربي"، أجبرت السعودية، رغماً عنها، على الانخراط في المشروع تحت قيادة تركيا ومموّلتها قطر، وهو ما كان واضحاً في شهادة وزير الخارجية القطري السابق، حمد بن جاسم، الذي تحدَّث في مُقابلةٍ تلفزيونيةٍ لاحقاً عن زيارته للملك السعودي عبد الله في بداية "الربيع العربي"، إذ وُضِعت السعودية في مكانة مُذلّة للغاية، من خلال إجبارها على تمويل مشروع مُنافستيها الإقليميتين (تركيا وقطر) في سوريا، من دون أن يكون لها أيّ دور في القيادة في ذلك الحين.

إنَّ مصيبة إردوغان التي تجلَّت بعد ذلك خلال السنوات اللاحِقة، تمثّلت في أنه قبَضَ من أميركا، لكنّه لم يستطع أن يُسلّمها ما تمّ الاتفاق عليه (رأس محور المقاومة مُمثلاً بسوريا الدولة التي تقع على حدوده، والتي كان من المُفترَض أن تكون مفتاح استعادة السلطنة العثمانية، لكنَّها استعصت على الإخوان).

في الواقع، لم يكن الجيش التركيّ النظاميّ، غير المُستعدّ طبعاً لبذل أيَّة دماء في معارك خارج حدوده، الأداة التي راهن عليها إردوغان لتحقيق مشروعه الإمبراطوري، بل كان جيشه الحقيقي هو جموع الإرهابيين الذين استقدمتهم الاستخبارات الغربية والتركية من الصين وآسيا الوسطى وكلّ العالم، والذين قاتلوا الجيش السوري بتغطيةٍ جويةٍ إسرائيلية، وبتمويلٍ وتسليحٍ من أغنى الدول: السعودية وقطر وأميركا وبريطانيا وفرنسا.

وعلى الرغم من كلِّ ذلك الدعم، فقد فشلوا في إنجاز المهمّة، ما أجبر الولايات المتحدة الأميركية على سحب قيادة مشروع إسقاط سوريا من يد تركيا وقطر، وتسليمه إلى السعودية بعد سنتين من "الربيع العربي". عندها، تنامت النصرة، وظهرت داعش، واختفى الجيش الحر الإخواني. 

وعندها أيضاً، تمكّن الجيش المصري من إسقاط حُكم الإخوان في مصر (بعد معركة القصير في سوريا في العام 2013، والتي شكّلت نصراً محورياً للجيش السوري وفشلاً للإخوان)، فتداعى نتيجة ذلك المشروع الإخواني في بقيّة الأقطار العربية، وسقطت الحكومات الإخوانية تِباعاً.

سيحاول إردوغان جهده التمسّك بما بقي له في سوريا، لكنَّ تجربة سراقب أثبتت أنَّ المشروع سقط استراتيجياً، وليس هناك آفاق لوجودٍ عسكريّ تركيّ في سوريا، فمَن تراجع مرة سيتراجع مرات!

وعلى الأنظمة والشّعوب العربيّة أن تُدرِك اليوم أنَّ تضحيات الشّعب السوريّ وصبره، ودماء عشرات الآلاف من الجنود السوريين ومُقاتلي المقاومة اللبنانية، كانت الثَّمن الذي دُفِع لإسقاط مشروع إعادة تدجين المنطقة وحُكمها عبر الوكيل التركيّ، تحت يافطة استعادة الخلافة العثمانية، وبواسطة فروع تنظيم الإخوان المسلمين العالمي.

وعندما كان هذا المشروع يحظى بالدّعم الأميركيّ في بدايات "الربيع العربي"، لم تمتلك السعودية أو الإمارات أو ما يُسمَّى بالدولة العميقة في مصر، جرأة التصدّي له وإسقاطه، لكنّ القيادة السورية أسقطته!

إن الآراء المذكورة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي الميادين وإنما تعبّر عن رأي صاحبها حصراً