خطة ترامب… بين الرفض الفلسطيني ومستقبل “إسرائيل الكاملة”
صفقة القرن من أجل حل النزاع بين إسرائيل والفلسطينيين تشكل تغييراً عميقاً مقارنة مع كل المحاولات التي جرت لمواجهة هذا النزاع منذ العام 1993، التي شاركتُ في معظمها. وبصفتها خطة تسعى ويمكنها التأثير على عناصر حاسمة في الأمن القومي الإسرائيلي، فهي تستحق نقاشاً عاماً يتجاوز ضجة الانتخابات ودعايتها.
النموذج الذي وجه إسرائيل في جميع المفاوضات آنفاً كان أن أمامنا نزاع بين حركتين وطنيتين لهما طلبات وروايات تاريخية متناقضة، تتطرق إلى نفس قطعة الأرض الموجودة بين البحر والنهر. لا يمكن تجاهل الواقع الديمغرافي على الأرض، وعلينا أن ندرك بأن الطرف الفلسطيني لن يلقي بروايته إلى القمامة. وبناء على ذلك، إذا أرادت إسرائيل ضمان مستقبلها كدولة يهودية وديمقراطية فعليها أن تحاول خلق واقع جديد، متفق عليه وغير مفروض، ويقوم على الانفصال إلى كيانين سياسيين مع تقسيم أراضي يهودا والسامرة، وهو واقع يتغلب على الروايات التاريخية ويضع خطوط توازن بين الاحتياجات الأمنية الحاسمة لإسرائيل والتطلعات السياسية الفلسطينية، ويؤدي إلى إنهاء النزاع. رؤساء حكومات مختلفون دخلوا في مفاوضات ورسموا خطوط التوازن المطلوبة في أماكن مختلفة الواحد عن الآخر، لكنهم جميعاً، بمن فيهم نتنياهو، فعلوا ذلك على أساس النموذج نفسه.
خطة ترامب تقترح نموذجاً مختلفاً. للمرة الأولى تطرح الولايات المتحدة، بالتشاور مع إسرائيل، خطة مفصلة مرفقة بخريطة لحل شامل للمسائل الرئيسية، التي تميل بشكل كامل لصالح الرواية التاريخية للحركة الوطنية للشعب اليهودي، وتضع المسامير في مسألة احتياجات كل طرف من أطراف التسوية، بل وفي مسألة من هو المحق. وهي تتعامل بـ”ملف 1967″، و بـ”ملف 1948″، بما في ذلك الاعتراف بسيادة إسرائيل في الحرم، وإلغاء مطالبة الفلسطينيين بحق عودة اللاجئين، وإعادة فتح الحدود التي تم ترسيمها بعد انتهاء حرب الاستقلال، وذلك من خلال إجراء إعادة تنظيم في مناطق 1967 و1948 كرزمة واحدة واقتراح لنقل مناطق “المثلث” إلى فلسطين كتعديل تاريخي.
الخطة تعتبر نفسها أرضية للمفاوضات، ولكن بوضعها أمام الفلسطينيين وهذا الاختيار بين روايتهم والدولة وبأن رفضها سيؤدي إلى خسارة أخرى للفلسطينيين.. تظهر مثل قاعدة ليس للجسر فحسب، بل للإكراه أيضاً. تدعي إدارة ترامب بأن النموذج القديم فشل. لذلك، فإن مطلوب نموذج جديد. أجل، حسب رأيي، لم نكن في أي يوم قريبين حقاً من انطلاقة نحو اتفاق دائم، وحتى أننا لم ننجح في التغلب ولو على مسألة أساسية واحدة. والمجال يضيق عن تحليل سبب حدوث ذلك. ولكن على كل الأحوال، الآن وبعد أكثر من 25 سنة على الإحباطات، وصلنا إلى النقطة التي لا أرى فيها أي قدرة لدى الطرفين على التقاء طرفي الحد الأدنى لهما من أجل التوصل إلى اتفاق يسوي المسائل الأساسية ويؤدي إلى نهاية النزاع ونهاية الطلبات. في هذه الأثناء، لم تبق الوقائع المادية والفكرية والسياسية للشعبين في مكانها بانتظار التسوية، بل ابتعدت عنه.
كثيرون توصلوا إلى الاستنتاج بأنه في ظل غياب القدرة على الانطلاق نحو اتفاق بخطوة شاملة واحدة، فإن المطلوب هو القيام بخطوات تدريجية وجزئية لتطبيق النموذج. خطة ترامب تراهن على كل الصندوق وباتجاه آخر. صحيح أنه يجب عدم تقديس نموذج قديم لم ينجح، ومن الجدير إعادة فحص افتراضات أساسية ومعايرة توقعات، ولكن هل تعدّ خطة ترامب هي النموذج البديل الصحيح لإسرائيل؟ وللإجابة عن ذلك، يجب فحص عدة مسائل وسيطة.
هل تعطي خطة ترامب إسرائيل أدوات فعلية لتطبيق احتياجاتها الأمنية في واقع متفق عليه؟ نعم، “بصورة كاملة”. الدولة الفلسطينية سينزع سلاحها بصورة فعلية وستعطى لإسرائيل مسؤولية أمنية كبيرة على كل المنطقة والسيطرة على غور الأردن وعلى الفضاءات الجوية والبحرية والإلكترومغناطيسية. حول عدد غير قليل من هذه العناصر كانت لنا نقاشات شديدة مع الفلسطينيين (الذين اتفقنا معهم فقط على مبدأ نزع السلاح، ولكن ليس على طريقة تطبيقه)، وكذلك مع أصدقائنا الأمريكيين. ما زلت أتذكر جيداً تلك النقاشات مع جون كيري عندما كان وزير الخارجية الأمريكية، في مسألة معايير تحديد استمرار وجود الجيش الإسرائيلي في غور الأردن. والآن للمرة الأولى، توافق الإدارة الأمريكية على الصيغة الإسرائيلية الأوسع للترتيبات الأمنية في الاتفاق.
مع ذلك، الخطة تثير تساؤلات صعبة يجب مناقشتها. من ناحية جغرافية، إسرائيل ملزمة بتعويض الفلسطينيين عن 30 في المئة تقريباً من أراضي يهودا والسامرة المخصصة لهم. وتبادل للأراضي بمساحة “قابلة للمقارنة بصورة معقولة”، حيث يكون مجال احتساب الـ 100 في المئة هي مناطق يهودا والسامرة وغزة التي كانت في أيدي الأردن ومصر حتى العام 1967. والاحتساب على الخريطة يدل على أن الأمر يتعلق بتبادل للأراضي بنسبة 2: 1 تقريباً لصالح إسرائيل. من هنا، مطلوب من إسرائيل أن تعطي الفلسطينيين مساحة كبيرة بحجم يساوي ضعفي مساحة قطاع غزة. وفي ظل غياب القدرة على تبادل أراض بهذا الحجم في الحدود الحالية ليهودا والسامرة وغزة، بحيث لا تتضرر أي بلدات قائمة، فعلى إسرائيل أن تعطي مساحات كبيرة في النقب قرب الحدود مع مصر. وثمة مقترح خيار منح أراضي مأهولة في منطقة المثلث، لكن هذا خيار نظري؛ فلا يوجد احتمال لأن توافق السلطة الفلسطينية وسكان المثلث على ذلك.
ثمة حاجة إلى نقاش عام في إسرائيل حول أهمية خريطة الخطة، وأفضلية الأراضي التي سيتم ضمها وإعطاؤها من زاوية نظر إستراتيجية. وأذكر بأنه حسب قانون الأساس: استفتاء- فإن إعطاء أراض من إسرائيل يحتاج إلى أغلبية من خلال استفتاء عام، إلا إذا حصل الاقتراح على تأييد 80 عضواً في الكنيست. وإليكم عدداً من الأسئلة التي تقتضي النقاش: لماذا يعدّ ضم عشرات كثيرة من المستوطنات المعزولة وخلق سلسلة من الجيوب السيادية في أراضي فلسطين (أصلاً يوجد للجيش صلاحية أمنية متزايدة على الأرض)، أهم من الحفاظ على مناطق في النقب، الذي يشكل عمقاً إستراتيجياً ومناطق تدريب أساسية للجيش؟ ما هي أهمية إيجاد وحماية حدود إسرائيلية – فلسطينية جديدة (مفتوحة؟ مغلقة؟)، طولها 1300 كم؟ ما هي أهمية عشرات الجيوب الفلسطينية داخل أراضي إسرائيل؟ هل فرض السيادة هو الحل الوحيد من أجل الحفاظ على جميع مصالح إسرائيل مهما كانت؟
ومن الجدير أيضاً مناقشة مسألة العلاقة بين الجغرافيا والديمغرافيا: في المنطقة المخصص إعطاؤها لإسرائيل يعيش مئات آلاف الفلسطينيين، معظمهم في القدس. وعلى الأقل هناك 70 ألف شخص في غور الأردن. الخطة تقترح على العرب في شرقي القدس الاختيار بين ثلاثة أمور، منها الجنسية الإسرائيلية والإقامة الدائمة، ويمكن الافتراض بأنه سيقترح ذلك أيضاً على غير المقدسيين. ما هو ميزان المكاسب في إضافة مناطق معينة لسيادة إسرائيل مقابل الخسائر في فتح الباب (أو إغلاقه) أمام إعطاء الجنسية لسكان هذه المناطق؟ هل تبرر مكاسب ضم معظم الأحياء العربية في شرقي القدس ثمن إعطاء الجنسية لنحو 200 ألف فلسطيني يعيشون هناك؟
هل يمكن للخطة أن تشكل قاعدة للتفاوض مع قيادة فلسطينية مستقبلية؟ حسب تقديري، لم يولد بعد الزعيم الفلسطيني الذي يمكنه الموافقة على هذه الخطة كقاعدة للمفاوضات. صحيح أن هناك دولة مقترحة على الفلسطينيين، ولكن الحصول عليها مرهون بسلسلة شروط حظوظها معدومة في التحقق (مثل نزع السلاح في غزة)، وجزء منها (هو معيار عال للديمقراطية وحقوق الإنسان) غير قائم في أي دولة عربية. لا يستطيع أي زعيم فلسطيني الموافقة على دولة مصغرة ومجزأة ومحاطة بغلاف إسرائيلي وبعاصمة في الأحياء البعيدة في شرقي القدس. مليارات الدولارات الموعودة للفلسطينيين لن تحلي حبة الدواء المرة بالنسبة لهم، ربما العكس.
أبو مازن (85 سنة) هو آخر جيل المؤسسين للحركة الوطنية الفلسطينية، وهو يركز على ترسيخ إرثه (غير الفاخر جداً). كل زعيم سيأتي مكانه، حتى أكثرهم براغماتية، سيكون عليه أن يرسخ مكانته على محاربة خطة ترامب وعلى مواقف متصلبة تجاه إسرائيل.
إذا كانت خطة ترامب ليست أرضية للمفاوضات، فما هي فائدتها؟ ربما تجد الخطة طريقها إلى عالم النسيان مثل معظم سابقاتها. مثلاً، إذا انتخب رئيس من الحزب الديمقراطي بدلاً من ترامب. مع ذلك، معقول أنها ستضع بصماتها، ولو في وضع نقاط استناد جديدة وقوية أمام زعيم إسرائيلي في المستقبل. وبالأحرى إذا انتخب ترامب مرة أخرى، أو إذا توجهت إسرائيل إلى تطبيق أحادي الجانب للخطة.
في المدى القصير على الأقل يوجد لإسرائيل قدرة تأثير حاسمة على تطور الواقع في سياق خطة ترامب. تحظى في الوقت الحالي بدعم غير مسبوق من إدارة أمريكية داعمة ومن الرياح القومية التي تهب في العالم وتفتح تفاهمات جغرافية (مثل روسيا في شبه جزيرة القرم، والهند في كشمير)، ومن الضعف التاريخي للحركة الوطنية الفلسطينية، ومن عدم مبالاة العالم العربي تجاه الفلسطينيين الذي يدل على تغير إقليمي كبير.
بواسطة هذه الأجنحة ومبادرة ترامب، يمكن لإسرائيل أن تختار الطيران باتجاه خطوات ضم أحادية الجانب في يهودا والسامرة، التي امتنعت عن القيام بها على مدى 53 سنة، بدءاً من ضم أجزاء معينة وحتى تطبيق حلم أرض إسرائيل الكاملة. ولكن هل من الصحيح السعي للقيام بذلك فقط لأننا نستطيع ذلك؟ أو هل من الصحيح القيام بذلك لأنه هذا الأمر سيخدم أمن إسرائيل ومستقبلها كدولة يهودية وديمقراطية على المدى البعيد؟
إن من يؤيدون الضم يستجيبون للتهديدات من التداعيات السلبية المحتملة التي تلوح في الأفق (إغلاق الباب أمام التسوية، وضعضعة الوضع الأمني على الأرض، والمس بالأردن وبالعلاقات الحاسمة معه، وإبطاء تطبيع العلاقات مع الدول العربية، وزيادة حملة نزع شرعية إسرائيل في العالم وما شابه)، حتى لو تحقق جزء منها فعلينا ألا نفوت الفرصة التاريخية التي قد لن تتكرر لتحقيق مصالح إسرائيلية حيوية. وفي نهاية المطاف، سيتعود العالم على ذلك. في الأصل لا يوجد شريك فلسطيني للاتفاق حسب شروط الإجماع الإسرائيلي. يجب عدم تعويض الفلسطينيين عن رفضهم. ولأنه معروض عليهم كيان حكم ذاتي يمكنهم فيه أن يحظوا بجنسية ويصوتوا ويديروا حياة منفصلة، فإنه قد تم نزع الشوكة من خطر التدهور نحو دولة ثنائية القومية.
ولكن خط تطبيق أحادي الجانب للخطة يمكن أن يتبين كمنحدر زلق سيؤدي إلى واقع خطير وغير مستقر. وهاكم سيناريو لا يقل معقولية عن الحلم المتفائل: خطوات ضم إسرائيلية سيتم عرضها أمام الجميع وكأن إسرائيل تغلق أي إمكانية للانفصال من خلال الاتفاق وتتقدم نحو إعادة تحديد فضاء الصراع. هذه الرسالة يتوقع في الأيام القادمة أن تدفع الفلسطينيين إلى إعادة تعريف هذا الفضاء باتجاه دولة واحدة مع مساواة في الحقوق للجميع – وفي مرحلة معينة يمكن أن يحصلوا على دعم دولي كبير في ذلك. ومن الآن، يظهر تأييد واسع في أوساط الشباب الفلسطينيين لهذه الرؤية، وقد يزداد. في هذا الوضع لا توجد أي ضمانة لأن تواصل السلطة الفلسطينية الوجود، وطوال الوقت هي و”الجزر” الفلسطينية التي توجد في المناطق يمكن أن تنهار داخل بوتقة إسرائيل، مع ازدياد التحدي الديمغرافي والسياسي لإسرائيل. الضغط باتجاه دولة ثنائية القومية لن يأتي من الأعلى، بل سيتغذى من الأسفل؛ انظروا اندفاع الفلسطينيين باتجاه فضاء السيطرة الإسرائيلية في القدس. ولم نتحدث بعد عن التأثيرات المتبادلة المحتملة بين العرب في المناطق وعرب إسرائيل، الذين تتعامل معهم خطة ترامب وكأنهم جسم واحد. يمكن التجادل حول احتمالات هذا السيناريو الكابوس، ولكن لا يمكن رفضه. إن رهاناً كهذا على مستقبل إسرائيل ألا يبرر إجراء استفتاء؟
على إسرائيل أن لا تتبنى خطة ترامب كوصفة عملية “مقدسة”، بل العمل على تصليب الوضع السائد على الأرض، وتأطير الخطة كأرضية للانفصال وليس للاندماج، والسعي إلى ذلك بحذر وبالتدريج مع الحفاظ على مصالحها الأمنية، ومن الأفضل أن يكون هذا في إطار تفاهمات إقليمية. وقد حذرنا سليمان الحكيم في سفر الجامعة من “الغنى محفوظ لصاحبه وليس لصالحه”.
بقلم: ميخائيل هرتسوغ
هآرتس 14/2/2020