أولمرت: لهذه الأسباب التقيت رئيس السلطة الفلسطينية
سألني كثيرون الأسبوع الماضي لماذا رأيتُ من الصواب أن ألتقي، في أثناء زيارتي إلى الولايات المتحدة، رئيس السلطة الفلسطينية أبو مازن، الذي عرض موقفه الرسمي من صفقة القرن للرئيس ترامب. ينبغي الاعتراف بأن الانطباع الذي قد ينشأ لدى الجمهور الإسرائيلي، مثلما لدى الأسرة الدولية أيضاً، هو أن خطة ترامب موضوع بين إسرائيل والولايات المتحدة فقط. الحدث الذي جرى في البيت الأبيض، والذي لعب فيه الرئيس الأمريكي ورئيس حكومة تصريف الأعمال بنيامين نتنياهو دور النجم،كان احتفالاً لامعاً شاركت فيه دولتان فقط. إسرائيل والولايات المتحدة ترتبطان بحلف من الصداقة والالتزام المتبادل ليس له موازٍ في العالم. لا شك أن ترامب يبدي التزاماً عميقاً بتعزيز قوة إسرائيل وأمنها، وفقاً لفهمه لاحتياجاتها وخريطة مصالحها. حتى هنا الصورة بسيطة، واضحة ومشجعة، ويمكن أن نفهم الحماسة التي ألمت بكثيرين في ضوء هذه المظاهرة المؤثرة جداً للصداقة من جانب زعيم القوة العظمى، التي يتعلق بها أمن إسرائيل واستقرارها السياسي والاقتصادي. كل هذا صحيح، ولكن بعد أن تبددت الحماسة الأولى لا يزال هناك لغز غير قابل للتفسير: كيف تنخرط مسيرة السلام بيننا وبين الفلسطينيين في هذه الحملة الحماسية؟ وهل هناك مفاوضات على جدول أعمال إسرائيل لتنفيذ أفكار ترامب؟ هل يعتقد أحد ما بجدية بأنه يمكن صنع السلام أو على الأقل البدء بالجهد لإجراء مفاوضات مع الشريك الذي ينبغي الوصول معه إلى اتفاق، دون الحديث مع زعمائه وممثليه؟
يتبين أن هناك شخصاً واحداً على الأقل يعتقد بأن هذه حيلة ممكنة، وهذا الرجل هو رئيس حكومة تصريف الأعمال، الذي من المتوقع أن ينهي مهام منصبه بعد بضعة أسابيع. نتنياهو لم يقصد تبني خطة السلام. أعتقد أن بوسعه أن يجعل منها مناورة أخرى من تلك المناورات التي يتميز بها: لماذا يعقد السلام مع الفلسطينيين إذا كان ممكناً ضم غور الأردن من طرف واحد، وبسط القانون الإسرائيلي على كل المستوطنات والبلدات التي بنيت في مناطق يهودا والسامرة، وإحاطة المناطق الأخرى التي تتبقى ظاهراً بسيطرة السلطة بوجود عسكري مكثف للجيش الإسرائيلي وقوات الأمن، والاعتقاد بأن هذا سيؤدي إلى وقف الإرهاب والهدوء والتسليم والمصالحة، بل وحتى إلى اختفاء المشكلة الفلسطينية عن جدول أعمال حياتنا؟
ولكن يتبين أن الإدارة الأمريكية التي تشعر بالتزام عميق جداً تجاه إسرائيل غير مستعدة لأن تنجرف وراء أحابيل نتنياهو.
***
كان مبكراً جداً أمل نتنياهو والعصابة التي ترافقه وتكرر تحريضاته وتبجحاته بأن الرئيس سيوافق على تحطيم الخطة التي عرضها وشطب صفقة القرن من جدول الأعمال ويستقبل خطوات أحادية الجانب للضم، والتي من شأنها أن تشعل نار العنف والإرهاب وتقوض السلام الهش بيننا وبين الأردن وربما مصر أيضاً. يتبين أن ترامب لا يعمل عند نتنياهو. لا شك أنه ملتزم بإسرائيل وأن مساعديه يحبون إسرائيل ويريدون ضمان مستقبلها الأمني والسياسي والاقتصادي.. ولكنهم غير مستعدين لأن يتخذوا صورة الدمى لرئيس حكومة تصريف أعمال في طريقه إلى إنهاء ولايته.
يتبين أن القسم الآخر من صفقة القرن، الهدف الذي تكبد الرئيس عناء عرضه في ذاك المؤتمر الصحفي اللامع في البيت الأبيض “دولتان لشعبين” لم يكن شعاراً فارغاً، إنما هدف ضروري لما تعتقد الولايات المتحدة بأنه الأساس الثابت لبلورة الصفقة، غير أن نتنياهو ليس مستعداً لهذا الأمر؛ فهو لا يقصد الوصول إلى تسوية تقام في نهايتها دولة فلسطينية عاصمتها شرقي القدس، كما يظهر بشكل لا لبس فيه من الخطة التي وضعها ترامب على طاولة المفاوضات المستقبلية.
لا يمكنني أن أشكو من نفتالي بينيت، ورافي بيرتس، وبتسلئيل سموتريتش. فهم حتى لا يحاولون التظاهر بأنهم معنيون بالتسوية مع الفلسطينيين، أو أنهم مستعدون لأي تنازل عن ذرة تراب واحدة في يهودا والسامرة، ولكن نتنياهو يتظاهر، ويعتقد أن باستطاعته أن يأكل الكعكة حتى آخر فتاتها، ويتركها كاملة في الوقت نفسه. ولكن نتنياهو غير قادر على أن يفعل ذلك. ويمكن قبول خطة ترامب، والمشاركة في احتفالات إطلاقها، والتجول في فروع الليكود ومواصلة التحريض ضد من يشكك بنزاهة نتنياهو ومصداقيته، ولكن لا يمكن قبول الخطة وفي الوقت نفسه رفض الأساس المركزي الذي تقوم عليه: فكرة الدولتين للشعبين.
يعرف نتنياهو جيداً بأنه إذا أعلن صراحة وبشكل علني بأنه موافق على خطة ترامب بكل عناصرها، وأنه مستعد لأن يعمل، وليس فقط يضم أجزاء من الضفة الغربية، بل ويوقع أيضاً على اتفاق يعترف بوجود دولة فلسطينية وبسيادتها في معظم المناطق.. فإنه سيفقد تأييد شركائه في كتلة اليمين، ما سيلغي تماماً فرصته لتشكيل حكومة. الحقيقة هي أن المعارض الأشد لخطة ترامب هو من يحاول تصوير نفسه كالمؤيد الأكبر لها.
في هذه الظروف، يبدو المخرج الوحيد الذي يقبله نتنياهو هو نشر الأكاذيب، وبالأساس التحريض ضد معارضيه، أولئك الذين لديهم ما يكفي من الاستقامة الجماهيرية لكشف تظاهره. من هنا إلى تلك القصص التي تبين كأني اقترحت على الفلسطينيين، في المفاوضات مع أبو مازن، السيطرة على الحائط الغربي المبكى – فإن الطريق قصير جداً.
نتنياهو يحرض ويقصي. قبل 25 سنة ساهم تحريضه ضد إسحق رابين في خلق أجواء لعلها أعطت إلهاماً للكراهية والاحتجاج، وأخيراً للعنف الذي انتهى بمأساة هزت المجتمع الإسرائيلي. لست مستعداً لأن أطأطئ الرأس وأسلم بوحشية نتنياهو العنيفة والعصابة التي تحيط به.
***
إني على قناعة بأن الحاجة إلى الانفصال عن الفلسطينيين والموافقة على قيام دولة فلسطينية مستقلة تقع إلى جانبنا هي مصلحة جوهرية لإسرائيل. لا شك عندي بأن قسماً مهماً من الجمهور يريد وقف السيطرة الإسرائيلية على ملايين الفلسطينيين ممن لا يمكنهم أن يقيموا نمط حياة حراً، بحيث يتمتعوا بحقوق المواطن الكاملة في الدولة التي يريدون أن يعيشوا فيها، في دولتهم.
لخلق واقع كهذا، ثمة حاجة إلى العودة للحديث معهم. فكرت، ولم أغير رأيي بأن خطة ترامب ليست مبنى على أساسات متوازنة تكون ضرورية لخلق البنية الصحيحة التي قد تؤدي إلى مفاوضات ناجحة. ولكن ثمة أساسات كفيلة في الخطة –إذا ما قبلها الطرفان وبحثا فيها بجدية– أن تؤدي إلى اتفاق تاريخي؛ ففي أساس الأمور ثمة حاجة إلى إقامة دولة فلسطينية مستقبلة، عاصتها شرقي القدس.
من أجل البدء في ذلك، هناك حاجة إلى الحديث مع من يمثلون الفلسطينيين. نتنياهو يفضل الحديث، بشكل مباشر أو غير مباشر، مع حماس في غزة. أنا مقتنع بأنه يجب الحديث مع أبو مازن، ولهذا التقيته. هناك فوارق كثيرة بيني وبينه، وغير قليل من عدم التوافق. لو كان بيننا توافق كامل، لكنا توصلنا إلى اتفاق سلام قبل 12 سنة. ولكن عندما لا يكون هناك توافق سيكون الحديث أفضل، فنتنياهو غير مستعد لذلك لأنه يريد الضم مهما كان الثمن الدموي الذي ندفعه لقاءه، أما أنا فأفكر بشكل مختلف.
لا أتبوأ أي منصب جماهيري، ولا أدعي تمثيل أي جهة سياسية، ولست مستشاراً ولا أتشاور أيضاً مع بيني غانتس ورفاقه في قيادة “أزرق أبيض”، ولكن العنف اللفظي وتحريض نتنياهو، وميري ريغف، وسموتريتش، لم يمنعني من الإعراب عن رأيي والعمل في الطريق الذي يعمل فيه الناس في دولة ديمقراطية ومتسامحة كي يحققوه.
بقلم: إيهود أولمرت، رئيس الوزراء السابق
معاريف 14/2/2020