أخطاء السياسة الأميركية تجاه إيران
يخرق إرليخ عقوداً من المعلومات الخاطئة والتقارير المنحازة عن إيران لتقديم معلومات مخفية عن العموم في السنوات الخمسين الماضية.
by محمد علي فقيهبعد عمله الدؤوب لإخراج كتابه "أجندة إيران اليوم: الرواية الحقيقية من داخل ايران والخطأ الذي حصل في السياسة الأميركية" (الدار العربية للعلوم ناشرون،بيروت، ترجمة: رامي الريس)، يؤكد المؤلف الأميركي ريتز إرليخ بأن معظم الوكالات الاستخباراتية الأميركية متفقة على أنّ إيران لم تكن تمتلك برنامجاً نووياً قبل العام 2003، ويكشف أيضاً لماذا تستمر واشنطن رغم ذلك بسياسة المبارزة ويقدم انتقاداً مفصلاً للتغطية الاعلامية عن إيران.
وتستند تحليلات الكاتب في كتابه الى مقابلات سابقة مع مسؤولين إيرانيين رفيعي المستوى، بالإضافة الى مذكراته عن رحلته الى طهران مع الممثل شون بن.
يستكشف الصحافي الأميركي العلاقة المضطربة في الآونة الأخيرة بين أميركا وإيران، ويظهر كيف أدت إلى المواجهة في مجال التكنولوجيا النووية.
وقد قدم للكتاب باحثان أميركيان هما ويليام بيمان وروبرت فيشر، سيدرك القارئ أن التقديمين لا يقلان قيمة عن كتاب إرليخ.
وليام بيمان هو من أهم الدبلوماسيين الأميركيين الذين عملوا في وزارة الخارجية الأميركية في الملف الإيراني حيث عمل لأكثر من أربعين عاماً في دراسة إيران ومنطقة الخليج فضلاً عن أنه من القلة الذين يتقنون اللغة الفارسية. وقد اشتهر برأيه الواقعي في تركيبة العلاقات الأميركية - الإيرانية وكل العوائق التي تقف في وجه تطوير هذه العلاقة.
ويرجع بيمان الأسباب التي أدت إلى تقييم جاهل وغير دقيق للحياة الإجتماعية والسياسية الإيرانية وأوصل الأميركيين إلى اتخاذ قرارات ضعيفة إلى أنه في السابق نمت مجموعة من الخبراء الإيرانيين الذين يتحدثون الفارسية بطلاقة ويملكون المهارة في فك الشيفرة بعد الحرب العالمية الأولى، وكان هو من هؤلاء، وقد عمل في إيران كخبير لغوي وأنثروبولوجي منذ سنة 1968. ولكن بعد الثورة الإسلامية، راحت هذه المجموعة من الخبراء تتضاءل، واليوم بلغ خبراء ما قبل الثورة سن التقاعد أو أنهم على وشك بلوغها ويحل محلهم مجموعة صغيرة من الخبراء الشباب، ما قلّص الفهم الدقيق لإيران في الدوائر الحكومية الأميركية.
ويعتبر الباحث بيمان أن إرليخ يقود القراء في رحلة عميقة إلى واحد من أكثر الأوطان سحراً في الكرة الأرضية. ويؤكد أن الكتاب صادق حقاً، على عكس الكثير مما كتب عن إيران في السنوات الأخيرة. ويخرق إرليخ عقوداً من المعلومات الخاطئة والتقارير المنحازة عن إيران لتقديم معلومات مخفية عن العموم في السنوات الخمسين الماضية.
ويعتقد بيمان أن هذا الكتاب يشكل إنجازاً ليس وليد مغامرة إخبارية متسرعة أُسقطت "كالباراشوت" بل هي نتيجة عشر رحلات مكثفة إلى إبران على مدى 16 عاماً أجرى خلالها إرليخ المئات من المقابلات مع إيرانيين وتنقل في مختلف أنحاء البلاد مراقباً المتغيرات في أربع ولايات رئاسية متتالية.
ويتابع بيمان: بالنسبة لغير الإيرانيين – ولا سيما لأصحاب الاختصاص في المعلومات الدولية – يتطلب فهم هذه البنية الإجتماعية والسياسية الإيرانية الكثير من المعرفة المعمقة. فهذه المعرفة غائبة تماماً في الولايات المتحدة في يومنا هذا، وسبب ذلك يكمن في تاريخ العلاقات الأميركية – الإيرانية خلال نصف قرن.
ففي العقود الأخيرة تضررت صورة إيران في نظر الدول الأوروبية وأميركا، فالثورة الإسلامية حولت علاقة إيران مع الولايات المتحدة وأوروبا. فبعد أن كان قادة إيران متوافقين ومتعاونين مع القوى الغربية بعد الثورة الصناعية في الغرب، فجأة مع الثورة الإسلامية صاروا يعتبرون أنهم معادون بشكل راديكالي للغرب. ونظر الأميركيون في طهران إلى التظاهرات المعادية لأميركا التي أدت إلى احتجاز موظفي السفارة الأميركية في طهران لمدة 444 يوماً سنة 1979 كإهانة بالغة يصعب تجاوزها. ولقد قطعت الولايات المتحدة علاقاتها الديبلوماسية مع إيران جراء هذه الحادثة، ولا تزال الأمور على حالها منذ أربعين عاماً.
ولذلك تتم تحركات الإدارات الأميركية على قاعدة الإنحياز وليس وفق المعلومات الدقيقة. لقد كانوا شديدي السلبية تجاه إيران في حقبة ما بعد الثورة إلى درجة أن المسؤولين الأميركيين، ولسنوات عديدة، مُنعوا من إلقاء التحية على المسؤولين الإيرانيين عموماً.
ويشير إرليخ في كتابه إلى أن الإعلام الأميركي المكتوب والمرئي والمسموع اتبع خطى المسؤولين الأميركيين في تقاريره. وقد خصص فصلاً من كتابه (الفصل الحادي عشر: "ما لم يقله الإعلام الأميركي لكم") للحديث عن التقارير والتعليقات الإعلامية المشوهة وغير الدقيقة عن إيران منذ سنة 1978.
الأميركيون العاديون مُنعوا بدورهم من التواصل وجهاً لوجه مع المواطنين الإيرانيين. فهم لا يتواجهون معهم أو يملكون خبرة عن الحياة العصرية الإيرانية، لا بل هم مثقلون بالرؤى القديمة والغريبة أحياناً عن الشعب الإيراني وطريقة حياته. ومع أن بإمكان الأميركيين السفر إلى إيران بسهولة نسبية، ولكن معظمهم يظنون أنهم لا يستطيعون القيام بذلك. أما الذين يقومون بذلك فلا يستوعبون التجربة بسهولة، ويعودون إلى وطنهم الأم حاملين معهم المفاجأة والغبطة من وسائل الراحة في السفر والدفء وحسن الضيافة عند الإيرانيين، بالإضافة إلى عجائب المواقع التي زاروها. كما يكتشفون أن إيران مليئة بالزائرين من مختلف الدول حول الأرض وأنهم يعودون إليها بفرح.
يقول بيمان: "لأن تجربتنا الأميركية مع إيران وصلت إلى هذه الدرجة من البُعد، فكتاب "أجندة إيران اليوم" يشبع رغبة الأميركيين الذين يتعطشون للمعرفة الدقيقة".
ومع أن كتاب إرليخ يركز على إيران والمواطنين الإيرانيين، إلا أنه يشمل مقابلات مع عدد كبير من المعلقين بمن فيهم من ينتقدون ويشككون لا سيما فيما يتعلق ببرنامج تطوير الطاقة النووية الإيرانية. وطالما أن برنامج إيران النووي شكّل حيزاً خلافياً كبيراً في علاقات إيران مع الولايات المتحدة وسائر دول العالم، فإن هذه الرؤية ضرورية جداً للقراء الذين يرغبون بالحصول على مقاربة متوازنة حول اتفاق إيران النووي لعام 2015 الذي لا يزال عاملاً أساسياً في السياسة الدولية.
يتمنى بيمان أن يدفع الكتاب القراء لتفحص المواقف الحكومية والإعلامية حول إيران – في الإعلام الغربي والإعلام الإيراني على حد سواء – بدقة وتمعن. ويرى أن وطناً وحضارة بهذا القدر من الثراء والتعقيد يستحقان اهتماماً خاصاً.
التقديم الثاني للكتاب كان للصحافي الأميركي المعروف روبرت فيشر الذي اشتهر بنقده القاسي "للمحافظين الجدد" ومن يدعون مناصرة "إسرائيل" في عهد الرئيس الأميركي جورج بوش الإبن، وعرف بدعوته الدائمة لمراجعة السياسة الأميركية تجاه إيران.
يحتوي تقديم فيشر على نقد فلسفي للسياسة الأميركية فيقول: منذ ثورتنا ضد الحكم الإمبريالي وغرَقنا في أسطورة البراءة، قدمت الولايات المتحدة نزعتها الإمبريالية بصورة مستمرة تحت عنوان "تعزيز بدل قمع الحريات لدى الشعوب المحتلة". ويؤكد فيشر أن الأذى التاريخي ينطوي على نتائج قاسية يصعب تخفيفها حتى ولو أبدى زعماء العالم، ومن ضمنهم الأميركيون، أحسن النوايا.
ويضيف فيشر: لقد تكرر هذا النمط مرات عديدة منذ الحرب العالمية الثانية ولكنه لم يكن بقدر وضوح المحاولات المتواصلة والكارثية من قبل الولايات المتحدة لتوجيه السياسة في إيران الثرية بالنفط. والمسؤولون الأميركيون لم يعترفوا قط برغبتهم الجامحة في السيطرة على الموارد الثرية لذاك البلد وتلك المنطقة، بل أصروا على أنهم يكترثون حصراً لتوسيع مساحات السلم والحرية.
هذه "المسرحية" أصبحت في الواجهة بعد الإجتياح الأميركي للعراق، ورغم تلك الهزيمة، يبقى الهدف الطويل المدى للسيطرة على إيران هو الأساس بالنسبة للولايات المتحدة.
ويعتقد فيشر أن إرليخ في تحليله الشامل، يكتب بروحية الكاتب البريطاني الشهير غراهام غرين الذي عكس مؤلفه الكلاسيكي (رواية "الأميركي الهادئ") الأثر السطحي، بل المدمر، للتدخل الأميركي في دول العالم الثالث في حقبة الحرب الباردة. وقد وُصفت رواية غرين عند نشرها عام 1955 بأنها معادية لأميركا ولكنها ستُثبت، في غضون سنوات قليلة بعد إصدارها، صوابها في إدانتها للتدخل الأميركي في فيتنام، بل وتحولت هذه الرواية المثيرة للجدل والتي تدور حول الحب والبراءة والأخلاق، إلى فيلمين سينمائيين أميركيين ناجحين.
ويرى فيشر، على غرار غراهام غرين، أن إرليخ يدمج المعرفة الميدانية مع الحياة اليومية في الدول المستهدفة في نقد قاسٍ للأهداف المزعومة من الغازي الأجنبي.
ويعتقد فيشر أن الولايات المتحدة تدخلت في شؤون إيران منذ أكثر من خمسين عاماً. وستتواصل النتائج المؤسفة التي تلاحقنا في المستقبل. ويعتبر أن "تغاضينا الغريب عن التعقيدات الوطنية والدينية الإيرانية بدأت مع انقلاب سنة 1953 الذي أطاح بالزعيم العلماني المنتحب ديمقراطياً محمد مصدق الذي كان يملك شعبية كبيرة".
يقول فيشر بسخرية: "إن جريمة مصدق كانت مباشرته بتأميم شركات النفط الوطنية. لقد اعتدى على إيماننا المقدس بحقنا الإلهي بالنهب الجماعي الذي تفوق على الإهتمامات الأخرى، بما فيها رغبة الشعب الإيراني بالسيطرة على موارده وتالياً على مصيره".
يؤكد فيشر أن القيمة الأساسية لبحث إرليخ أنه يظهر الضعف في محاولة فهم عدم قدرة الولايات المتحدة على التعامل مع الإيرانيين في يومنا هذا. وعلى رغم انتقاده للسلطة السياسية في طهران منذ بداية الثورة الإسلامية، إلا أن إرليخ يتفادى مسار الشيطنة الفظ الذي طغى على الكتابات الأكثر شعبية في هذا الملف. وينصح فيشر بأن "إيران ليست كجمهورية الموز التي يمكن التلاعب بها، وفق الرغبات، بل إنها الموقع التاريخي لحضارة أساسية لا يمكن تجاهل إرثها".
ويختم فيشر تقديمه النقدي بقوله: "السياسة الخارجية الأميركية المبنية على الجهل بتاريخ إيران الثري، والمنشغلة حصراً بالمصالح الأميركية ولّدت نتائج فظيعة. هذه النتائج رغم أنها لم تكن مقصودة ربما بعد أن تولاها سياسيون لا يفقهون تعقيدات العالم التي تدخلوا بها، تسيطر على الحالة الدرامية للسياسة الدولية".