https://www.alquds.co.uk/wp-content/uploads/2020/01/1-805-730x438.jpg?v=1580480015

خطة ترامب-نتنياهو: هكذا بدا البيت الأبيض منصة لحفل “عيد المساخر” اليهودي

ذكرني العرض الذي جرى في البيت الأبيض هذا الأسبوع بحفل عيد المساخر “البوريم”، رغم أنه بقي أكثر من شهر على هذا العيد. فقد حبس العالم بأسره أنفاسه، وعندها عرضت بفخار خطة إدارة ترامب للسلام في الشرق الأوسط وإنهاء النزاع بين إسرائيل والفلسطينيين.
مثّل إسرائيل في هذا الحدث رئيس الوزراء، وجلس في الحضور أناس اختيروا بعناية (غالبيتهم الساحقة يهود، غير قليل منهم يعتمرون الكيبا) للتصفيق للخطة ولمن وضعها وبادر إليها وعرضها. وغاب الفلسطينيون. وكأنه لا صلة لهم بكل الأمر. هذا حدث لنا، ومعد لنا، ومعد للإحسان إلينا، خلق في التوقيت والطريقة التي نظم بها كي يساعد رئيس وزراء إسرائيل للفرار من أزماته الشخصية – على الأقل لزمن ما – وللاحتفال مع صديقه الرئيس بالوهم بأنه يمكن إنهاء نزاع تاريخي مفعم بالمشاعر، والذكريات، والأزمات ودم الضحايا الأبرياء، ولا سيما في جانبنا، ولكن غير قليل منهم في الطرف الآخر أيضاً – في احتفال ألعاب نارية إعلامية وجملة من الشعارات المتآكلة والخطوات التبسيطية.
“صفقة القرن” ليست أساساً للمفاوضات، وليست وصفة لمصالحة تاريخية، وليست مساراً يؤدي إلى مفاوضات تضع الأساسات لحياة جيرة بين دولة اليهود والدولة الفلسطينية. وبالأساس: الأساس الذي اعتمد عليه فكر الزعامة الإسرائيلية على مدى سنوات طويلة سعى للانفصال بيننا وبين الفلسطينيين. فالحياة في إطار إقليمي واحد هي وصفة لاحتكاك دائم، ولإرهاب لا يكاد يكون سبيلاً لمنعه، ولمرارة بدورها تغذي كراهية حكمها أن تنتشر وتتسلل إلى كثيرين.
خطة ترامب لا تسمح بالانفصال فحسب، بل وتخلق نسيجاً مدينياً من الصعب جداً الفصل فيه بين اليهود والفلسطينيين. والوهم في أن هذا النسيج لن يتغير في المستقبل، ولن ينجح في اختبار الجهد الذي لا يتوقف من جانب المستوطنين لتوسيع أماكن مستوطناتهم ولتصبح غير قابلة للفصل.
الخطة هي إنجاز في العلاقات العامة والدعاية السياسية الكبيرة لنتنياهو، وما كان يمكنه أن يحلم بهدية أجمل، مغلفة بغلاف جذاب أكثر من هذا الاحتفال الذي نظمه على شرفه الرئيس الأمريكي. لقد سبق أن قلت إن نتنياهو في نظري ليس زعيماً يسعى لإحلال تغيير تاريخي يضع وجود إسرائيل على أساسات مستقرة وراسخة من الاعتراف الدولي الواسع، والعطف، والمصالحة الداخلية بين سكانها اليهود وغير اليهود والحياة التي فيها أمل بالسلام مع أعدائنا التاريخيين. هو ممثل، ولامع، وخبير، ومجرب.. ولكنه ممثل. والبيت الأبيض وفر له منصة مركزية، لعلها أكثر من المنصات في برودوي، وقد استخدمها بخبرة باعثة على التقدير.
***
ليس صدفة أن الفلسطينيين لم يكونوا شركاء في الحدث. من اللحظة الأولى لم تر فيهم إدارة ترامب أكثر من ملحق هامشي لهدف جهودها المركزي. والجهود التي بذلتها الإدارة لم تستهدف خلق أساس جدي وحقيقي ونزيه للحوار بينهم وبين إسرائيل. نقطة منطلق الفريق الأمريكي كانت ما تعكسه احتياجات إسرائيل، مثلما يمثلها قطاع كان أقلية في الجمهور الإسرائيلي، ولكنها أقلية أصبحت سائدة وحاسمة في السنوات التي تولى فيها نتنياهو رئاسة الوزراء.
خطة ترامب هي خطة لضم من طرف واحد لكل المستوطنات اليهودية في الضفة الغربية ولضم غور الأردن، ولعلها أيضاً تضع الأساس لتحرير دولة إسرائيل من أجزاء معينة من المناطق تشكل اليوم جزءاً منها ولكنها مأهولة بالمواطنين العرب.
ولضمان ألا تجري مفاوضات حقيقية بين إسرائيل والفلسطينيين، أرفقت بالخطة سلسلة من المطالبات بتنازلات فلسطينية هي شروط مسبقة، مثل نزع سلاح منظمة الإرهاب لحماس وتصفيتها، ووقف دفعات عائلات المخربين، وتغيير إلزامي في مضمون كتبهم التعليمية التي فيها نصوص لا تطاق تقترب من اللاسامية، وبالأساس – اعتراف فلسطيني بإسرائيل كدولة يهودية. كل هذه المطالب يجب أن تكون جزءاً من اتفاق السلام، عندما يوقع. ولكن الافتراض بأنه يمكن اشتراط وجود المفاوضات بإعلانات مسبقة – هو زرع لغم يفجر كل فرصة للمفاوضات في المستقبل.
إذا قرر رئيس الوزراء اتخاذ خطوات من طرف واحد كهذه فبهذا لن يصفي فقط فرص المفاوضات، بل وسيساهم في خلق جبهة عربية موحدة تضم دولاً مثل الأردن ومصر، ودولاً سنية معتدلة تتطلع للوصول إلى علاقات سلام رسمي مع إسرائيل. هذه الجبهة ستكون رأس حربة في صراع دولي ضد إسرائيل، ستنضم إليه دول كثيرة، وبينها دول صديقة بوضوح لإسرائيل– في أوروبا أيضاً.
ولكن كل هذه هي جزء من الأضرار التي يمكن أن تجلبها “خطة القرن” لترامب.
الواقع الذي سينشأ سيجعل دولة إسرائيل دولة فيها نوعان من السكان: مواطنون (وبالأساس يهود)، يتمتعون بكل الامتيازات الممكنة التي تمنحها الدولة لرعاياها؛ والفلسطينيون، الذين يعيشون في داخل المناطق التي تسيطر عليها الدولة، بلا حقوق، وبا حرية حركة، ولا حرية اختيار، وبلا مكانة تضمن لهم ولأبنائهم حياة قيمة وكرامة مستقلة.
يمكن بالطبع أن نستخدم المفاهيم المعروفة في الخطاب الدولي لنشرح كيف ستبدو دولة إسرائيل وكيف ستتعاطى معها في الأسرة الدولية.. ولكني أتخلى عن استخدامها. فهي مفهومة من تلقاء ذاتها.
لا شك أن خطة ترامب ثورية.. ثورية بالمعنى السيئ والضار والخطير للكلمة. فمن شأنها أن تشوش فهم الواقع الداخلي الذي نعيش فيه، وأنماط السلوك المرغوب فيها في العلاقات بين مواطني الدولة، وبالأساس ما هو مسموح به ومحظور في العلاقات بين دولة إسرائيل ومن يعيشون في داخلها، ولكنهم لا يستحقون التمتع بالحقوق الأساس التي من شأن غيابها أن يجر كثيرين منهم إلى مقاومة عنيفة ووحشية تجاه أنفسهم وتجاهنا.
دولة إسرائيل اليهودية، الديمقراطية، المتسامحة، المتصالحة والمحترمة لنفسها ولغيرها، ستكف عن الوجود، وستصبح جيباً احتلالياً، استغلالياً واستعبادياً لأناس لا يريدون أن يكونوا جزءاً منها. وفي نهاية المطاف، ستكف عن أن تكون أيضاً دولة ديمقراطية تجاه مواطنيها أنفسهم. لأنه عندما يبدأ الانزلاق في منحدر التمييز والقمع، سيكون صعباً جداً تقييد حدود الانزلاق، ونهايته الدمار الذاتي.
***
الثلاثاء من هذا الأسبوع، جرى احتفال كبير في واشنطن. نال ترامب بضع لحظات من الرحمة في الفوضى الشخصية والعامة التي يعيشها في هذه الأيام. وأتمنى له من كل القلب أن ينجو منها. كما أن نتنياهو هو الآخر اجترف تصفيقاً وهتافات تمجيد من جمهور عاطف اختير بعناية. غير أن حكم هذه الحفلة أن تنتهي ببكاء عظيم. أخشى أن يكون هذا البكاء بكاءنا.

بقلم: إيهود أولمرت
رئيس الوزراء السابق
معاريف 31/1/2020