https://www.alquds.co.uk/wp-content/uploads/2020/01/1-806-730x438.jpg?v=1580480326
رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو

رؤيا ترامب.. وصك الانتداب الجديد: سيادة إسرائيلية تستند إلى التوراة وتحطم المعايير الدولية

في الخطاب الذي ألقاه بنيامين نتنياهو في البيت الأبيض، كان قد خرج عن أطواره كي ينفعل بصوت عال من الإبداعية الجامحة، وحرفياً لمن صاغوا خطة سلام ترامب. ومشكوك فيه إذا ما وجه هذا الانفعال والإشادة لطاقم الصياغة الأمريكي فقط، ففي كل البنود التي تملأ الـ 181 صفحة يمكن ملاحظة بصمات اليمين الإسرائيلي، بدءاً من المقدمة الطويلة التي وصفت وضع النزاع بين إسرائيل والفلسطينيين، وحتى أدق التفاصيل التي تمس مسألة التصريح بهدم بيوت في مناطق السلطة الفلسطينية. هذا نص مؤثر في قدرته على بناء رواية مشوهة للتاريخ واستخدامه كقاعدة لبناء واقع سياسي مشوه وخطير بشكل أكبر.
مثال على ذلك هو الجملة التي تقول إن “انسحاباً من أراض احتلت في حرب دفاعية هي ظاهرة نادرة في التاريخ”، فهذه الحقيقة التاريخية أمر مختلف عليه، بل إن مجرد الاعتراف بأن حروب إسرائيل التي سيطرت فيها على أراض كانت حروباً دفاعية يمنح الشرعية للاحتلال – هكذا، إسرائيل غير ملزمة بالانسحاب مطلقاً من المناطق. وإذا كان الأمر كذلك، فلماذا لا يتم الاعتراف بكل المناطق، بما في ذلك غزة، كجزء لا ينفصل من إسرائيل. بل إن الخطة تتوسع في ذلك وتقول بأن “هذا الحلم (صفقة القرن) سيساهم في نقل مساحة كبيرة من قبل دولة إسرائيل، وهي مساحة تطرح إسرائيل حولها دعاوى قانونية وتاريخية سارية المفعول، التي هي جزء من أراضي وطن الأجداد للدولة اليهودية، الأمر الذي يجب أن نعتبره تنازلاً كبيراً (من جانب إسرائيل)”.
هذا اعتراف مطلق بالادعاء التوراتي كقاعدة لتسوية سياسية، دون التطرق مطلقاً لمسألة الحقوق التاريخية للفلسطينيين على أجزاء من أرض إسرائيل. فعلياً، ليس هناك أي حاجة إلى تبرير “حرب دفاعية” من أجل شرعنة الاحتلال، التوراة توفر التبرير المطلوب بأكمله. أقوال ترامب يمكن أن يكون لها تداعيات ليس فقط على النزاع الإسرائيلي – الفلسطيني، بل على كل نظرية العلاقات الدولية وعلى مكانة القانون الدولي. على سبيل المثال، إذا كان “حق الأجداد” والعلاقات التاريخية يبرر الضم، فلا يوجد أي سبب لفرض عقوبات على روسيا التي احتلت شبه جزيرة القرم.
إن وجهة النظر التي تم التعبير عنها في حلم ترامب تتناول أيضاً مفهوم السيادة التي يصفها كـ “مفهوم غامض تطور مع الوقت”، وهو مشروط بشبكة العلاقات والاتفاقات التي عقدتها الدول فيما بينها. “وجهة النظر التي ترى في السيادة قانونية ومعرفة بصورة دائمة، كانت عقبة غير ضرورية في المفاوضات في الماضي”، ورد في الخطة. “البراغماتية والاعتبارات التطبيقية التي تؤثر على الأمن والازدهار، هي الأمور الأهم”. هذا وصف يبعث على الحيرة في أصالته؛ أولاً، لأنه يتجاهل مفهوم القومية والتطلع نحو تقرير المصير، ليس فقط للفلسطينيين، بل لكل شعوب العالم التي يجب أن تتنازل عن رغبتها في تقرير المصير داخل دولهم. ثانياً، هو أيضاً يهز القاعدة التي تطالب إسرائيل على أساسها بسيادة على المناطق المحتلة. إذا كان الازدهار والأمن هما الاعتبارات الأساسية، فإن السيطرة على شعب آخر – كما خبرت الولايات المتحدة على جسدها ذلك في العراق وأفغانستان – هي الأمر الأكثر بُعداً عن الأمن. يبدو أن هذا التناقض لا يزعج ترامب الذي جل اهتمامه هو منح قاعدة أخلاقية، أيديولوجية ودينية لطلبات إسرائيل.
لا يوجد أي سبب أيضاً لفحص معنى هذه المقولات من وجهة نظر الفلسطينيين. ترامب على ثقة بأن التطلع لازدهار الفلسطينيين يضمنه بواسطة استثمار 50 مليار دولار، الذي يلقي بكاهله على دول أخرى وليس على الولايات المتحدة. بالنسبة للأمن، فإن الخطة لا تعترف باحتياجات الفلسطينيين في هذا المجال، باستثناء القانون والنظام ومحاربة الإرهاب. من المفهوم ضمناً أن الأمن الفلسطيني يشتق من أمن إسرائيل.
معايير حالمة
من هنا يستقي ترامب المعايير التي بحسبها ستقوم الدولة الفلسطينية. إلى جانب موضوع الحدود التي تعرفها “الخارطة المفاهيمية” المرفقة بالخطة، يجب على الدولة الفلسطينية تلبية خمسة معايير “التي يجب على إسرائيل والولايات المتحدة معاً المصادقة على تحققها… بعد التشاور مع السلطة الفلسطينية”. الشروط تنص من بين أمور أخرى على أن الفلسطينيين يجب عليهم “تطبيق أسلوب حكم يستند إلى الدستور (أو طريقة أخرى)، ترسخ سلطة القانون وتوفر حرية التعبير وانتخابات حرة واحترام حقوق الإنسان لمواطنيها وجهاز قضاء مستقل. على الفلسطينيين أيضاً “إنشاء مؤسسات تمويل أمينة وشفافة تستطيع الوفاء بالاتفاقات مع المؤسسات المالية الدولية. ويجب على الفلسطينيين إلغاء كل البرامج، بما في ذلك البرامج التعليمية والكتب التعليمية التي تستخدم للتحريض وتشجيع الكراهية ضد جيرانهم. وعليهم أيضاً إنجاز إشراف مدني وتطبيق للقانون في كل المنطقة الجغرافية التي تعود لهم، ونزع السلاح من مواطنيهم. كما عليهم الخضوع لشروط هذا الحلم”.
للوهلة الأولى، هذه معايير حالمة وضرورية لكل دولة في العالم، ولكن غيابها حتى في أوساط حلفاء الولايات المتحدة، مثل السعودية ودولة الإمارات ومصر، لا يمنع الأمريكيين من أن يعقدوا معهم علاقات ممتازة. ميثاق مونتيفيديو الذي وقع في 1933 وتحول إلى جزء لا ينفصل من القانون الدولي يحدد أربعة شروط لقيام الدولة: مجموعة سكانية ثابتة، ومنطقة جغرافية محددة، وحكومة وقدرة على إقامة علاقات مع دول أخرى. وثمة شرط آخر ينص على أنه يجب عدم استخدام القوة من أجل تحقيق السيادة، فسيطلب من فلسطين التي حظيت باعتراف من الجمعية العمومية للأمم المتحدة تلبية شروط ترامب. هذه الشروط استهدفت كما يبدو ضمان أن تكون فلسطين دولة قانون تضمن حقوق مواطنيها وتلبي معايير مؤسسات التمويل الدولية. ولكن ترامب يعين للفلسطينيين جسماً مشرفاً إسرائيلياً – أمريكياً، سيحدد ويصادق على تلبيتهم لهذه الشروط، بعيداً عن الجسم الدولي أو المواثيق الدولية.
هذا التجديد كان يجب أن يهز كيان الأمم المتحدة التي تصمت حتى الآن إزاء قدسية اللحظة. لا يوجد أي دولة في الشرق الأوسط، بما في ذلك العراق الذي احتلته أمريكا، طلب منها تلبية هذه الطلبات كشرط للاعتراف بها أو لإقامة علاقات سياسية مع الولايات المتحدة. وليس من نافل القول أن إدارة ترامب تواصل مساعدة لبنان وإقامة علاقات دبلوماسية وطيدة معه رغم حقيقة أن حزب الله، الذي يعتبر في الولايات المتحدة منظمة إرهابية، هو مركب رئيسي في حكومته. صيغة الخطة لا توضح إذا ما كانت الدولة الفلسطينية هي تلك التي يجب عليها تلبية هذه الشروط، أو أن السلطة الفلسطينية ملزمة بتلبيتها قبل أن تحظى بمكانة دولة.
يبدو أن إسرائيل والولايات المتحدة تتطلعان إلى أن السلطة بمكانتها الحالية ستنجح في صياغة دستور وإجراء انتخابات وبناء مؤسسات مالية وتجريد مواطنيها من سلاحهم. ولكن إذا حدثت معجزة ونجحت السلطة الفلسطينية وحماس في التوصل إلى تفاهمات حول مسألة السلاح أو المناهج التعليمية، فهل ستوافق إسرائيل على إجراء انتخابات في الجيوب الفلسطينية التي ستبقى في أيديهم؟ انتخابات كهذه يمكن أن تشكل حكومة لحماس في جميع المناطق، أو على الأقل حكومة وحدة وطنية تكون فيها حماس شريكة كبيرة.
خطة ترامب تنص بصورة صريحة على أن “الولايات المتحدة تتطلع إلى أن لا تضم حكومة الدولة الفلسطينية أي عضو من حماس أو الجهاد الإسلامي أو التنظيمات الأخرى، إلا إذا تحققت جميع الشروط التي تسمح بإشراك حماس”. هذه الشروط التي توضع تحت عنوان “معايير غزة”، تنص على أن “غزة ستكون منزوعة السلاح تماماً، وستكون السلطة الفلسطينية أو أي جهة دولية أخرى مقبولة لإسرائيل هي صاحبة السيطرة الكاملة على غزة. وحماس والجهاد الإسلامي والتنظيمات الأخرى سيتم نزع سلاحها”. ودون تحقق هذه الشروط لن تكون إسرائيل ملزمة بالوفاء بالتزاماتها حسب اتفاق السلام الإسرائيلي – الفلسطيني.

ضمن هذه الشروط، فإن إقامة دولة فلسطينية يشبه السير في متاهة بلا مخرج. في كل مسار ستجد السلطة نفسها أمام سلسلة من الشروط التي يرتبط الاعتراف بوجودها بمصادقة إسرائيل.

تفويض مصغر

ضمن هذه الشروط، فإن إقامة دولة فلسطينية يشبه السير في متاهة بلا مخرج. في كل مسار ستجد السلطة نفسها أمام سلسلة من الشروط التي يرتبط الاعتراف بوجودها بمصادقة إسرائيل. الخطة لا تتطرق أبدًا لمكانة السلطة أو السكان الفلسطينيين في حال عدم قيام الدولة، أو أثناء المرحلة الانتقالية إلى حين إقامتها. هل تعدّ المناطق المتبقية تحت سيطرة الفلسطينيين في هذه الفترة هي مناطق محتلة وخاضعة للقانون الدولي؟ ولأن مفهوم الاحتلال غير مذكور أبداً في الخطة، فليس من الواضح أيضاً من هو المسؤول عن الإدارة اليومية الجارية وعن تمويل إدارة السلطة الفلسطينية، على فرض أنها ستواصل الوجود. هل ستواصل اتفاقات أوسلو سريانها في هذه المناطق؟ لا يوجد جواب على ذلك في الخطة.
ترامب لا يكتفي بصياغة طريقة حكم جديدة وتحطيم القانون الدولي الذي وضع أسس الإدارة والسيطرة على المناطق المحتلة، بل إنه يحطم الذريعة الوطنية الفلسطينية لإقامة دولة تكون ملجأ للاجئين الفلسطينيين. “الكتاب الأبيض” الأمريكي يقتبس أجزاء من “الكتاب الأبيض” البريطاني عندما ينص على “حركة لاجئين من خارج غزة والضفة إلى دولة فلسطين تكون خاضعة لموافقة بين الطرفين وتنظم حسب معايير مختلفة تشمل قوى اقتصادية مثل “الحفاظ على أن لا تزيد نسبة الداخلين أو تثقل على تطوير البنى التحتية والاقتصادية للدولة الفلسطينية أو تزيد الأخطار الأمنية لإسرائيل”. وورد أيضاً: “عند التوقيع على اتفاق السلام بين إسرائيل والفلسطينيين ستنتهي مكانة اللاجئين، وستتوقف وكالة غوث وتشغيل اللاجئين “الأونروا” عن الوجود وستنتقل مسؤوليتها إلى الحكومات ذات العلاقة”.
هنا تكمن إحدى “الصياغات الإبداعية” التي تأثر بها نتنياهو بشكل كبير. الخطة ترفض تعريف الأونروا لمكانة اللاجئ الذي استمر لأجيال. ولكن في الوقت نفسه تنص على أن من كانوا مسجلين كلاجئين في الوكالة في يوم نشر الخطة هم من سيحظون بمكانة لاجئ. وكتب أيضاً أن التسجيل كلاجئ هو فقط لغرض معرفة العدد المتوقع لدعاوى التعويض، ويجب عدم تفسيره كموافقة أمريكية على تعريف المنظمة لمنح مكانة لاجئ. يصعب التفكير بصيغة ملتوية ومتحايلة أكثر من التي توصل إليها السحرة في البيت الأبيض، بالتشاور مع شعراء دولة إسرائيل.
في أفضل الحالات، الخطة هي صك انتداب مصغر ينقل إلى إسرائيل والولايات المتحدة الإدارة المشتركة للمناطق المحتلة واحتكار تحديد موعد وشروط إقامة دولة فلسطينية. في الواقع الحالي، هذا استمرار للاحتلال بشروط جديدة مثل تلك التي تبيض سرقة الأراضي الكبيرة التي تم تنفيذها خلال 53 سنة من الاحتلال.

بقلم: تسفي برئيل
هآرتس 31/1/2020