بين التعريب والتدويل والأسلمة والأنسنة
by فؤاد أبو حجلةفي أكثر مراحل القضية عتمة وسواداً، تواصل حماس سعيها لاستكمال مشروعها، ولو بتطوير التهدئة الدائمة مع إسرائيل إلى مشروع سياسي يتم تتويجه بإعلان دولة "مسمنة" في غزة التي تحكمها بقوة القمع الأمني
منذ بدايتها واجهت القضية الفلسطينية فشل الرهان على العمق السياسي العربي وسقط مشروع التعريب الرسمي لهذه القضية، وإن كان تعريب النضال قد تحقق تلقائياً بفعل الالتفاف الشعبي حول المقاومة الفلسطينية منذ انطلاقتها الأولى في عشرينيات القرن الماضي وبعد إطلاق الثورة الفلسطينية المعاصرة في أواسط الستينيات، حيث التحق عشرات الآلاف من المناضلين العرب بفصائل المقاومة على اختلاف توجهاتها العقائدية، وكان لافتاً أن تحظى حركة فتح بأكبر عدد من المناضلين العرب رغم أنها حركة وطنية لا ترفع يافطة قومية ولا إسلامية، وربما كان ذلك بسبب أدائها في الميدان وتحديداً في معركة الكرامة في العام 1968، وهي المعركة التي أعادت الاعتبار للعرب بعد هزيمة يونيو (حزيران) الصادمة.
وفي زمن الحرب الباردة، حين تقاسم النفوذ العالمي معسكران متضادان ظهر الرهان على تدويل القضية، واتجه الفلسطينيون وبعض العرب إلى المعسكر الاشتراكي بقيادة موسكو في بحثهم عن حليف ضروري لخوض معركة التدويل، لكنهم سرعان ما اكتشفوا أيضاً فشل هذا الرهان عندما خذلهم الحليف الروسي ووجدوا أنفسهم وحيدين في مواجهة اسرائيل وحليفتها الأقوى الولايات المتحدة.
ثم جاء مشروع الأسلمة الذي تم العمل عليه بتركيز شديد خلال الانتفاضة الفلسطينية الأولى التي قادتها القوى الوطنية واليسارية، لتظهر حركة حماس كذراع فلسطيني لجماعة الإخوان المسلمين، وهي الحركة التي استمدت قوتها من فشل الرهان العربي وسقوط الرهان على الشرعية الدولية. ومع حماس عرف الفلسطينيون الإسلام السياسي وانخرط كثيرون منهم في هذا المشروع الذي لا يعلي قيمة الوطنية على غيرها من القيم.
رغم كل ما حدث، ما زال الرهان على أسلمة القضية قائماً لدى قطاعات من الفلسطينيين المسكونين بهاجس الخلود في الآخرة بدلاً من الحياة في دنيا ضيقة وخانقة. ورغم كل الانتكاسات التي كان الإسلاميون شركاء في صناعتها، فإنهم استطاعوا ترسيخ الوهم لدى جموع الموالين بأنهم البديل الأنقى والأتقى لكل ما هو قائم وموجود في الساحة الفلسطينية.
الآن، وفي أكثر مراحل القضية عتمة وسواداً، تواصل حماس سعيها لاستكمال مشروعها، ولو بتطوير التهدئة الدائمة مع إسرائيل إلى مشروع سياسي يتم تتويجه بإعلان دولة "مسمنة" في غزة التي تحكمها بقوة القمع الأمني. وتواصل الحركة الإخوانية الماضي والحاضر حراكها لإقصاء منظمة التحرير الفلسطينية وانتزاع تمثيل الفلسطينيين في الكثير من المحافل، ومنها مؤتمر كوالالمبور الذي يجسد تحالفاً يضم ماليزيا وـندونيسيا وباكستان وتركيا وقطر.. وحماس.
ما تسرب عن هذا المؤتمر ومشاركة حماس فيه ممثلة برئيس مكتبها السياسي اسماعيل هنية يشير إلى احتمال تبني هذه الدول مشروعا ًجديداً يقوم على أساس إعلان دولة إسلامية في غزة وقد ينتهي المشروع كله عند هذا المبتغى، بحيث يتم إغلاق ملف الصراع الفلسطيني الإسرائيلي وتقديم هذا "المنجز" بأنه تجسيد لحل الدولتين الذي يحظى بتأييد الأغلبية الكبيرة في المجتمع الدولي باستثناء الولايات المتحدة وحفنة من الكيانات الصغيرة الذيلية لواشنطن.
في المقابل يجري حراك آخر تقوده لوكسمبورج، ويقوم على أنسنة القضية والدعوة إلى دولة واحدة مدنية وكاملة المواطنة والحقوق، يعيش فيها الفلسطينيون والاسرائيليون. وتخشى إسرائيل تبني الاتحاد الأوروبي لهذا المشروع، وتسارع في تحريك آلتها الدبلوماسية في الغرب لإحباط هذا المسعى الأوروبي الجديد الذي ينسجم تماماً مع القيم الأوروبية التي تعلي إنسانية الانسان على كل ما عداها. وهو أيضاً مسعى يلامس هوى الكثيرين من الفلسطينيين والعرب الذين يدركون بؤس الرهان على الحلول المطروحة واستحالة تطبيقها رغم انحيازها الواضح للاحتلال على حساب الشعب الفلسطيني الذي يتم الاستفراد به ويظل وحيداً في ميدان المواجهة.
ربما يكون منطقياً، بل وضرورياً أيضا، أن يجاهر أصحاب القناعة بالدولة الواحدة بموقفهم، وأن يتحركوا الآن لدعم المسعى الأوروبي لأن لا بديل لأنسنة القضية.