طلال الجديبي: البناء دون أعمدة ومخاطر الاستثمار

https://i1.wp.com/aqartalk.com/wp-content/uploads/2015/10/talal.jpg?resize=143%2C191&ssl=1
طلال الجديبي

ستواجه أي بناية يتم تشييدها بأعمدة ضعيفة مهترئة أو تأسيس مغشوش عديدا من المشكلات، خصوصا مع مرور الوقت. وقد تتحول، كما شاهدنا كثيرا، إلى ثروات ضائعة مثل أي مسكن لم يعد صالحا للسكن. وبكل تأكيد لن تطير في الهواء أي بناية تبنى دون أعمدة -حتى مع التطورات العلمية الخرافية- فهذا يعاكس المنطق ولا جدوى من المحاولة بهذه الطريقة.

الطريقة الوحيدة لرفع هامات البناء هي الأساسات العميقة والقوية جدا، لا بديل عن ذلك، فلم نر بناية تاريخية مثل الأهرامات أو حديثة مثل ناطحات السحاب إلا وهي مشيدة على أساسات مدروسة بعناية ومنفذة بإتقان. وهذا تماما ما أشرت إليه في مقال الأسبوع الفائت الذي تحدثت فيه عن التأسيس المالي بعنوان:

استثمارات غير مالية بعوائد مالية”؛ وذكرت فيه ثلاثة استثمارات لا غنى عنها كمدخل للتخطيط المالي الجيد وأساس لحصد العوائد المالية الحقيقية على مر الأعوام وهي: الاستثمار في الإمكانات الذهنية، الاستثمار في فهم الوقت والتعامل معه، وأخيرا الاستثمار في القدرات والمهارات الشخصية. تشكل هذه الاستثمارات غير المالية أعمدة البناء المالي الشخصي، التي تمكن أي فرد من تصميم بنائه كما يريد مخصصا حيزا وأماكن لصنع الدخل والاستثمار والصرف، ليعيش كما يريد.

تخيل معي مستوى مخاطرة الذين يقفزون من السماء ويستعرضون بالسباحة فوق سطح الأرض قبل فتح المظلة، أو مستوى المخاطرة الموجودة في تسلق ناطحات السحاب دون حبل أو خطاف، أو الغوص الحر دون معدات تنفس لأعماق تتجاوز الـ100 متر (الرقم القياسي 214 مترا). من المنصف أن نقول إن هذه الأنشطة ذات مخاطر عالية جدا، معظم الناس لن يتجرأ على فعلها، ويجب ألا يتجرؤوا على ذلك، لكن ماذا لو حاولنا تقييم مخاطر هذه الأفعال باعتبار أن من يقوم بها “لن” يأخذ الاحتياطات اللازمة؟ لن يقوم بالاستعداد والتدرب الكافي، لن يبحث عن المساندة من المختصين، لن يشتري أفضل المعدات ولن يحوز ما يكفي من اللياقة النفسية والبدنية لتأدية المهام بالشكل المطلوب.

بالطبع سيتعاظم وقتها حجم المخاطر إلى مستوى استثنائي لا يقبله أحد، سيصبح النشاط فعليا أحد أشكال الانتحار. هذا تماما ما يحاول فعله من يحاول -على سبيل المثال- الحصول على تمويل بالتزام طويل الأجل لغرض استثماري بعوائد غير مضمونة واحتمالات قائمة لخسارة رأس المال وهو لم يستثمر قدراته الشخصية بعد ولم يطورها بما يلزم، ولا يوجد في الوقت نفسه أي احتمالية معقولة لتحسين مستوى دخله في المستقبل القريب.

يعجز كثير من الأفراد عن تقييم مستوى المخاطرة عند الاستثمار، والأدهى من ذلك من يعجز عن تقييم مستوى المخاطرة التي يقوم بها حين يحاول تحسين حياته المادية عن طريق الادخار والاستثمار وهو لم يقم بالخطوات التأسيسية السليمة. يخاطر بماذا هنا؟ يخاطر بحياته ومستقبله ووقته.

يخاطر بأعظم ما يملك وهو الوقت الذي لن يعود أبدا، يخاطر بكل ريال اكتسبه بجهده، وكل فرصة تمر أمامه وهو لا يستطيع ملاحظتها، يخاطر بالانتظار والمحاولة والحلم دون قدرات ومهارات ودون أي أعمدة قوية يشيد عليها بناءه. ماذا سيحصل لاحقا؟ سيبدأ بملاحظة الفجوة، سيتجاهلها ابتداء باعتبار أنها قابلة للسد -حسب اعتقاده- بعد بضعة أعوام.

ستكبر الفجوة مع الوقت لدرجة لا يمكن تجاهلها. سيقتنع لاحقا بأن الفجوة لا يمكن سدها، وأن الوقت تأخر، وأن القناعة هي أفضل طريقة لتجاوز الموضوع. مع الأسف، عندما يصل البعض إلى مثل هذه النهايات غير السعيدة، يتممون قصصهم بالتبريرات المرضية لهم: الظروف لم تساعدني، الآخرون محظوظون، لم يكتب لي الغنى، “المليون يجيب مليون”، وربما اختتم قصته بنظريات المؤامرة والاستغلال والاحتيال.

لا تخلو السياقات التي نعيشها من التحديات والعناصر السلبية التي تثبط أحلامنا ومشاريعنا الإيجابية. وهناك طبعا بعض النصابين والمحتالين في كل بقعة من الأرض. وهناك كذلك أفراد تتاح لهم فرص لا تتاح لغيرهم، بطرق تبدو غير عادلة؛ لكن هذه الأسباب يجب ألا تكون سببا للإحباط أو اليأس أو التجاهل. بالعكس، بوجود التنوع والفروق التي تتطلب التفادي والحصد تصنع الفرص.

نعم، المعلومة المهمة ستتاح لبعض المتنفذين أو أبناء المتنفذين، لكن التعلم يمرر معلومات أثمن بكثير. نعم، هناك ما يمتنع عن تمرير إحدى الفرص الجيدة لك، لكن بحثك عن غيره سيجعلك تمر بعشرات الفرص الأخرى الأفضل منها.

حتى تحقق ما يملكه 1 في المائة من سكان العالم (الحرية المالية) ينبغي أن تقوم بما يتجرأ عليه 1 في المائة فقط من سكان العالم: العمل الجدي والمثابرة والتنظيم” هذا ما يقوله مانوج أرورا، وهو مؤلف هندي شهير لديه عدة كتب في مجال التخطيط المالي. على الجانب الآخر، البناء السريع غير المؤسس جيدا ويتم بأقل مجهود ودون دراية أو محاولة تعلم بحثا عن الطرق المختصرة لن يمنعك فقط من تحقيق النتائج التي تتمناها، بل قد يهوي بك إلى ما لا تتمناه.

المصدر