https://t1.hespress.com/files/2018/03/yassine_218431959.jpg

"المادة 9" .. خرق للشرعية القانونية والدستورية

by

يبدو أن الرقم 9 أصبح نذير شؤم في المجتمع المغربي في الآونة الأخيرة ، فبعد أزمة الزنزانة 9 الخاصة برجال التعليم وما عقبها من إضرابات رجال ونساء التعليم وما أسفرت عنه من اضطرابات في المنظومة التعليمة برمتها، ها هي المادة 9 من مشروع قانون المالية لسنة 2020 تحدث الرجة نفسها أو أكثر بل تحدث أزمة باتت تعرف بأزمة المادة 9 على غرار أزمة المادة 8 من مشروع قانون المالية لسنة2017 وتنص هذه المادة على أنه لا يمكن بأي حال من الأحوال إن تخضع أموال وممتلكات الدولة للحجز، بمعنى آخر أنه إذا كان للأشخاص الذاتيين أو الاعتباريين أحكام نهائية حائزة لقوة الشيء المقضي به في مواجهة الدولة تقضي بأداء تعويضات مالية لفائدتها فإنه سوف يكون من المستحيل الحجز على أموال وممتلكات الدولة لتنفيذ هذه الأحكام، وحسب المادة نفسها فإنها تفرض على الدائنين الحاملين لسندات أو أحكام قضائية تنفيذية نهائية ضد الدولة أن يطالبوا بالأداء أمام مصالح الأمر بالصرف للإدارة العمومية، في حالة صدور قرار قضائي نهائي اكتسب قوة الشيء المقضي به، يدين الدولة بأداء مبلغ معين، يتعين الأمر بصرفه داخل أجل أقصاه 90 يوما ابتداء من تاريخ تبليغ القرار القضائي السالف ذكره في حدود الإمكانات المتاحة بميزانياتهم وإذا أدرجت النفقة في اعتمادات تبين أنها غير كافية يتم عندئذ تنفيذ الحكم القضائي عبر الأمر بصرف المبلغ المعين في حدود الاعتمادات المتوفرة بالميزانية، على أن يقوم الآمر بالصرف باتخاذ كل التدابير الضرورية لتوفير الاعتمادات اللازمة لأداء المبلغ في ميزانية السنوات اللاحقة..." وهنا يكمن جوهر الإشكال الدستوري والواقعي، والذي يعيد جدلية تنفيذ الأحكام النهائية ضد الدولة إلى واجهة النقاش المجتمعي السياسي والقانوني والدستوري من جديد.

فمن الناحية الدستورية فهذه المادة تتعارض كليا مع مواد الدستور وخصوصا المادة 1 و6 و107 كما تتنافي كليا مع المادة 126 من الدستور والتي جاء فيها أن" الأحكام النهائية الصادرة عن القضاء ملزمة للجميع" مما يعتبر خرقا لروح ومبادئ الدستور المغربي كما تتعارض أيضا مع التوجهات الملكية في هذا الصدد، حيث عبر جلالة الملك محمد السادس غير ما مرة من خلال خطبه السامية على ضرورة تنفيذ الأحكام وخاصة في مواجهة الإدارة وتبسيط وشفافية المساطر والرفع من جودة الأحكام والخدمات القضائية حيث جاء في خطابه بمناسبة ترؤسه لافتتاح أشغال دورة المجلس الأعلى للقضاء بتاريخ 15 دجنبر 1999: "من البديهي أنه لن يحقق القضاء هذا المبتغى إلا إذا ضمنا لهيأته الحرمة اللازمة والفعالية الضرورية بجعل أحكامه الصادرة باسمنا تستهدف الإنصاف وفورية البت والتنفيذ، وجريان مفعولها على من يعنيهم الأمر"، وفي خطاب آخر بمناسبة افتتاح الدورة الأولى من السنة التشريعية الأولى من الولاية التشريعية العاشرة 2016 وجاء فيه:

"..... فمن غير المفهوم أن تسلب الإدارة للمواطن حقوقه، وهي التي يجب أن تصونها وتدافع عنها وكيف لمسؤول أن يعرقل حصوله عليها وقد صدر بشأنها حكم قضائي نهائي" وأضاف جلالته في الخطاب نفسه ".... فالعديد من المواطنين يشتكون من قضايا نزع الملكية، لأن الدولة لم تقم بتعويضهم عن أملاكهم أو لتأخير عملية التعويض لسنوات طويلة تضر بمصالحهم، أو لأن مبلغ التعويض أقل من ثمن البيع المعمول به وغيرها من الأسباب".

و في خطاب آخر للمغفور له الحسن الثاني جاء فيه أن "مسؤولية القاضي ليست أجسم من مسؤولية كاتب الضبط، ومسؤولية المحامي ليست أقل من مسؤولية القاضي ومسؤولية التنفيذ هي أكبر المسؤوليات ذلك أن عدم التنفيذ أو التماطل في التنفيذ يجر المرء إلى تفكير آخر وهو انحلال الدولة..." و من هنا يكمن حرص الملك على ترسيخ هيبة القضاء من خلال تنفيذ كل أحكامه، فدون تنفيذ هذه الأحكام لن تكون للدولة ولا للقضاء هيبة، ونستحضر في هذا الصدد مقولة شهيرة لرئيس الوزراء البريطاني "ونستون تشرشل" جاء فيها بعد حكم نقل مطار حربي بعيدا عن منطقة سكنية "أهون أن نخسر الحرب من أن يخسر القضاء البريطاني هيبته" .

وعلى مستوى الخطاب الرسمي للحكومة فقد سبق أن وجه الوزير الأول آنذاك السيد عبد الرحمان اليوسفي من خلال منشوره عدد 98/37 بتاريخ 31 غشت 1998 موجه إلى الوزراء حول تنفيذ الأحكام و القرارات النهائية، يذكرهم فيه بأن" الامتناع عن تنفيذ الأحكام النهائية المكتسبة لقوة الشيء المقضي به يعد تحقيرا لأمر قضائي، كما أفاد في المنشور نفسه بأن تنفيذ الأحكام النهائية يعتبر أسمى تعبير من كل الأطراف المعنية عن تمجيد القضاء وتكريم السلطة القضائية وفي الوقت ذاته اعترافا بحقوق المواطنين و احتراما وتكريسا لحقوق الإنسان.....

وبالعودة إلى الفرقاء السياسيين، فقد تضاربت الآراء حول هذه المادة إذ هناك فريق يذهب إلى أن أموال وممتلكات الدولة لا يمكن الحجز عليها تحت ذريعة استمرار سير المرفق العام بانتظام وباضطراد، وأن الحجز على أموال الدولة من شأنه تعطيل سير المرفق بل حتى تعطيل صرف أجور الموظفين، الأمر الذي من شأنه خلق نوع من عدم الاستقرار المهني وتعطيل مصالح الدولة كما دعوا إلى ضرورة وضع حدود للسلطة التقديرية للقضاء الإداري في إصدار أحكام بالتعويض والتي ترهق ميزانية الدولة وتحملها أعباء إضافية وهو رأي فريق العدالة والتنمية بمجلس النواب هذا الفريق الذي بدوره يجد معارضا له وهو وزير الدولة المكلف بحقوق الإنسان مصطفى الرميد والذي كان له موقف معارض لإخوانه في الحزب وزميله في وزارة الاقتصاد والمالية حيث اعتبرها مخالفة للدستور داعيا في الوقت نفسه إلى سحب هذه المادة.

بينما يذهب فريق آخر إلى أنه وفي إطار المساواة أمام القانون وفي إطار سمو الأحكام القضائية وإلزامية التنفيذ فإنه يتعين الحجز على أموال الدولة لأن تنفيذ الأحكام ضد الدولة من بين أهم ضمانات بناء دولة الحق والقانون والمؤسسات وهو رأي فريق الأصالة والمعاصرة والذي دعا إلى سحب هذه المادة أيضا، وفي السياق نفسه يذهب رجالات القانون وعلى رأسهم الفقيه الفرنسي العارف بشؤون القانون الإداري "ميشيل روسي" وهو أحد مهندسي دساتير المغرب السابقة، على أن المادة 9 من مشروع قانون المالية لسنة 2020 يتنافى مع الشرعية القانونية والدستورية كما أضاف في أحد مقالاته أنه بمجرد عرض القضية على المحكمة الدستورية ستقضي بإلغائها، هذا الموقف الذي عبرت عنه رابطة المحامين بحزب الاستقلال والتي اعتبرت في بلاغ لها كون هذه المادة غير دستورية مما يجعل تبينها مخالفا لروح الدستور، وأضاف البلاغ نفسه أن المادة 9 مادة إجرائية ليست من اختصاص قانون المالية وإنما تدخل ضمن التشريع الإجرائي وهي من اختصاص المسطرة المدنية مما يجعلها حالة شاذة في قانون المالية، وهو ما سماه البعض الآخر مهزلة تشريعية.

وبالرجوع إلى توجه القضاء الفرنسي من خلال مجموعة من الأحكام والاجتهادات القضائية، فقد أجاز إمكانية الحجز على الأموال الخاصة لبعض الأشخاص العامة وفي الحدود التي لا تمنع من سير المرفق والاستمرار في أداء خدماته للجمهور، الأمر الذي أثار الجدل في فرنسا والذي وضع المشرع الفرنسي حدا له من خلال التنصيص على مبدأ عدم الحجز على الأموال التابعة للأشخاص العامة من خلال الفصل 2311-1 من المدونة العامة للملكية المتعلقة بالأشخاص العامة.

أما على مستوى الاجتهاد القضائي المغربي وإن كان يتعلق بالحجز على المنقولات وليس العقارات فقد أصدرت المحكمة الإدارية بفاس قرارها عدد: 833 الصادر بتاريخ 10/12/2002 القاضي بالحجز على سيارات الجماعة الحضرية بفاس"، أما على المستوى التشريعي وبالرجوع إلى مشروع قانون المسطرة المدنية والتي جاءت بجملة من المستجدات، تهم موضوع تنفيذ الإحكام القضائية من بينها الحكم بالغرامة التهديدية على أشخاص القانون العام مع إمكانية تخويل طالب التنفيذ إمكانية الحجز التنفيذي على الأموال الخاصة بأشخاص القانون العام في الحدود التي لا تنتج عنها عرقلة السير العادي للمرفق العمومي وإقرار المسؤولية الشخصية للموظف العمومي عند الامتناع عن التنفيذ واعتبار السند التنفيذي بمثابة أمر بحوالة تصرف للمحكوم له من قبل المحاسب العمومي المختص بمجرد الطلب عند الامتناع عن التنفيذ بالإضافة إلى تحديد مسؤولية الآمر بالصرف بشكل واضح مع إلزامه بأن يصدر أمرا بتنفيذ الحكم القضائي داخل أجل ثلاثة أشهر، ابتداء من تاريخ التبليغ القضائي، أما مشروع القانون الجنائي فقد جاء بدوره بمستجدات مهمة من قبيل، تجريم ومعاقبة كل من تسبب عمدا وبسوء نية في تأخير مسطرة قضائية نتج عنها الأضرار بمصالح المستفيدين منها بمقتضى المادة 307-2 من مشروع القانون الجنائي.

ومن جهة أخرى قد يثار جدال آخر حول مدى كفاءة وقدرة مسؤولي الإدارة العمومية أو بعض المنتخبين خصوصا رؤساء الجماعات الترابية الجهوية والإقليمية والمحلية والقروية على توفير الموارد المالية الكفيلة بذلك، خصوصا إذا علمنا أن معظم هؤلاء الرؤساء لا يتوفرون على مستوى تعليمي جيد في المجال القانوني والتشريعي على الخصوص، فمن نتائج تمرير هذه المادة:

تعطيل الاستثمارات الوطنية والأجنبية وعدم ثقة المستثمر الأجنبي في جدوى الأحكام القضائية مادام لم تنفذ في مواجهة الدولة.

فقدان المواطن للثقة في جهاز القضاء عموما وفي الإدارة على الخصوص.

إتاحة الفرصة وإطلاق يد كل مسؤول إداري او امر بالصرف أو رئيس منتخب، لتصبح له كامل الصلاحية في أن ينفذ الأحكام القضائية او يمتنع عن ذلك لمن يشاء بناء على علاقات المصلحة و القرابة والزبونية والتبعية الحزبية.

ويمكن القول إن المادة 9 من مشروع قانون المالية لسنة 2020 هي شرعنة للريع والفساد الجديد وخرق للشرعية القانونية والدستوري.

لذا وجب دق ناقوس الخطر أمام هذه الأزمة التشريعية وذلك قصد إعادة النظر في هذه المادة من خلال سحبها خصوصا وأن المشروع برمته فوق طاولة لجنة المالية لمجلس المستشارين قصد المناقشة والمصادقة ثم الإحالة على الجلسة العامة لمجلس المستشارين، وهنا تطرح العديد من الفرضيات، ففي حالة التعديل يحال مشروع قانون المالية على الغرفة الأولى للقراءة الثانية، وفي هذا الصدد نعتقد أن مجلس المستشارين ومن خلال التوجه العام وقصد الخروج من عنق الزجاجة وحل هذه الأزمة الدستورية سيدفع بسحب هذه المادة على غرار ما تم العمل به في قانون المالية لسنة 2017، إلا أن كلمة الفصل الأخيرة والنهائية ستكون لمجلس النواب في القراءة الثانية طبقا للفصل 84 من الدستور قبل التوجه إلى المحكمة الدستورية لإنهاء الخلاف ورفع حالة اللبس التشريعي وفي هذا الصدد لا بد من التأكيد على أهمية مشروع قانون المسطرة المدنية ومشروع القانون الجنائي لتدارك هذا القصور التشريعي ورفع حالة الأزمة الدستورية.